في كل كتابة «عالمة» أطياف من طفولة البشرية، واستتباعا وترتيبا: أطياف من طفولة الكاتب. أقصد... الغناء والتطريب والرقص والأهزوجة والأرجوزة والسمر والأسطورة والخرافة. بهذا المعنى تنوس الكتابة، في أقصى عزلتها، بين أقمار الليالي الفائتة ووشم الأزمنة الشاخصة أو البائدة، وبين الاحتفاء بالقادم... بما يرتسم، في الأفق، تخييلا أو كهانة أو رجما بالغيب مع مناداة الموت بوصفه محوا وابتداء. ومن ثمة، فلا مجال لتبخيس الشفاهي بما هو كلام وحكي وانْوِجاد بالصرخة في سديم الصمت. وإذا كانت الكتابة وجودا وانوجادا وشخصنة بالصورة والرسم والحرف، فهذا يعني أنها أثر دم وبصمة صمغ، وماء قلم، ولوح محفوظ أي مسطور في ذاكرة الأزل، وخزينة الأبدية. وفي هذا ما يفسر انكتاب الوحي أو الأديان الكبرى طرا، أي ما يدعم المكتوب كناتج زمني مادي ممتد إلى الآتي فيما هو عالق ومشدود إلى البدء والأزل، أو بعبارة أكثر وضوحا: ما يشي بأن المكتوب كينونة دائمة، خرج من رحم الأصوات والكلام ليؤبدها ويخلدها، ويدفع عنها غائلة الموت في اللحظة عينها التي يفنى فيها ويتلاشى، ثم يتذرر كالرميم أو دقاق الريش. الميت صورة ذاته، فما يؤول إليه ليس غير محو لكتابته أي لمقتضى الحيز الذي شغله، والرسم الذي كانه. من هنا ازدواج معنى الرسم في اللغة العربية، إذ يحيل في الآن عينه على معنيين متضادين في الظاهر، متلاحمين في الباطن: فهو البقيا والمهدوم والفتيت، وهو الشاخص والدال والمدلول أيضا. هل ترانا نقول غموضا، ونبصم بإبهامنا على الإبهام المغلق؟ لنواصل التشريح والتمثيل لا بالمعنى الطبي والإجرامي، بل بما يفيد التفكيك والإسناد. وترتيبا عليه نسأل: كيف وصلتنا إذن ملحمة كلكامش والإلياذة والأوديسا والكاماسوترا والشهنامة، وأناشيد الفيدا، ومحاورات اليوبانيشاد، والشعر الجاهلي، وألف ليلة وليلة، والكوميديا الإلهية، والنصوص المحرمة... إلخ؟ كيف تخطت وصمدت في وجه عامل الانجراف الزمني والمكاني والإنساني؟ ألأنها حفظت وتعلقتها الأفئدة والقلوب والمهربون الجميلون فصانوها في ركن ركين وحصن حصين باعتبارها مشيمات الآداب العالية، والكلام الرفيع الحافظ لمعجزات البشر، وقدرته على إراقة الدم والنور معا؟ أم لأن الرسم أرساها وإن بدا الفوت وارتحال الزمن الملهم؟... تلك فرضية أولى. إنها النماذج العليا الميتة الحية، في موتها خلودها.. وفي حياتها انمحاؤها. وبذلك تأبدت بقوة وفعل الضدين المتكاملين إياهما. وقس على ذلك: الموسيقى والتشكيل وألوان السرد الأخرى في المدد الحضارية المتعاقبة وصولا إلى الراهن والحين المعيش، فالراهن مرتهن بالزمني السائل المتقدم لا بالحاضر، لأن الحاضر فات. والحين يتشقق إلى الحي المحسوس والمرئي، والميت الممحو والماحي. إنه مكر اللغة عندما تعتاص على خالقها، وتتمرد كما تتمرد الروبوات على أربابها، والمخلوقات العجيبة على فرنكشتاين أو فاضل العزاوي مثلا، إذ كلاهما يلهو ويعجن ويلعب. هذا في الغرائبي العلمي الصاعق، وذلك في تماثيله الحروفية الطينية المعبودة، كما أن كليهما ترميز لطائفته الروحية وبني جلدته الأرضية. كاتب وشاعر