يتجاور المعطى الحسي للوطن مع الفعل السياسي في ما يشبه نوعا من اللبس والغموض في التصور، وذلك من خلال ما يظهر من إنجاز لسلوكات متباينة من حيث الظاهر والباطن وما بين الذاتية والموضوعية، تصور ينتج في الأخير حالات صراع بدائية عن أي فعل سياسي عقلاني، بما هو ثقافة وسلوك وذهنية تفترض التعايش مع واقع طافح بالاختلافات والالتباسات. الحس الوطني والفعل السياسي مفهومان أساسيان لتمثل ما يمكن أن يكون بديلا للاحتقان الوارد في ظل الاختلافات القائمة في اتجاهات متعاكسة إلى درجة يغدو معها العنف ليس كحل طبيعي فطري بل قد يشرعن باسم الأخلاق والقيم وباسم السياسة والإيمان وأحيانا أخرى باسم الجهل والغرق في يقين الظلمات الأبدية. لعل ما نود الذهاب إليه تحديدا قد يلتقي رأسا بالمواطنة، المواطنة كمشاركة مدنية في الانتماء اللازم للهوية تنشد الحل السياسي كتجسيد للحس الوطني. تجربة المجتمعات العربية الإسلامية في الممارسة السياسية في العصر الحديث كانت قائمة على تراكب تصورين يعبران عن وجهتي نظر مختلفتين بما تحملانه من مشاريع مجتمعية، تكون بديلا عن حالات الجوع والجهل والمرض، الحالات الثلاث التي خلفت على مر العقود تخلفا ظل عبئا تعاني منه هذه الشعوب المندرجة تحت شعار الوحدة العربية الإسلامية. وقد تباين تأثير هدين التصورين تبعا لمجموع الدول المنضوية تحت هذا الشعار، ولعلنا نعني هنا تحديدا التصور الإسلامي والتصور الحداثي اللذين شكلا على مر العقود السالفة بؤرة صراع وعنف كان الحال فيها يبلغ أوجه مع تدخل الأنظمة التي قد تحيى في ظلها هذه التيارات. يسارا ويمينا، كانت سيرورة البناء تكثف في اتجاه اللحاق بالركب الحضاري، حيث ظلت المسافة متباعدة إلى حين كان مفهوم التخلف قرينا لتوصيف مكانة ما بلغته هذه المجتمعات من حصيلة في التطور والتقدم. غير أن ما جدّ واستحدث في مسار هذه السيرورة من حراك وثورات ومن عودة إلى ممارسة الشعوب دورها في التاريخ التطوري ضمن كياناتها الجغرافية والهوياتية والعرقية وبكل أطيافها المتباينة تبعا لوجودها في الزمان والمكان، هذه الحيوية التي ستغدو في حاجة إلى بناء أسس تكون متينة في علاقاتها وفي انتماءاتها، وهذا ما يساهم في إرسائه مفهوم الدولة الحديثة التي ستغدو راهنا مدعوة بشدة إلى أن تطابق في الوجود عصرها الراهن الذي تطبعه الكونية بسماتها الحداثية ومن خلال إحدى تجلياتها الأساس -الديمقراطية- كآلية لبناء الصرح اللازم لتنمية مجتمعات أصبح يتوجب على أفرادها دور -المواطنة- كحل سياسي يدفع إلى المشاركة في بناء الوطن اللازم لكل تصور طبيعي في مسار التاريخ. المواطنة كحس سياسي تبقى رهينة في مطابقتها للواقع بما تفرزه هذه الأخيرة من سلوكات تساهم في إيجابيات الفعل البناء القائم على الجهد والمحاولة في اتجاه تحقيق قيم الإنسان الكونية، بما فيها من حرية وعدل ومساواة، وبما يكفل نموا مجتمعيا يتجه نحو أفقه الحضاري، بما يعزز لديه كرامة الإنسان وقدسيته الفردية والجماعية. أما المواطنة كانتماء للهوية فهي الأخرى تبقى على علاقة بالحس السياسي، وهي كذلك ثقافة وممارسة تراعي حقوق المواطنين باعتبارهم متساوين بغض النظر عن أي عصبية قد تكون سياسية إيديولوجية أو دينية عقائدية أو عرقية عنصرية، لذا كانت كما شاءت النظم الحديثة أن تقدمها كمشروع إنساني قابل لأن تتعايش في ظله الاختلافات بما يمكّن من نزع فتيل التعصب لهوية قد تكون قاتلة بفعل قوة تأثير التصاقها الوثيق بالفطرة الغريزية، مثل ما قد نعثر عليه لدى باقي الأجناس والفصائل الحيوانية في الطبيعة، كما يمكن أن نجده ضمن إطار علم سيكولوجيا الحيوان كدراسات تجريبية أثبتت تجذر الكائن الحيوني تبعا لانتمائه -الجنس، الفصيلة- بارتباطه بالموطن كمكان ترسم حدوده، سواء بإفرازاتها الهرمونية ذات السمة الكيميائية أو في شكل البناء المؤسس لمكان التعايش والتوالد والبقاء، فالعش والعرين والوكر أماكن ومواطن تحدد جنس الحيون وانتماءه إلى مجموعته بشكل فطري، وبرسمها لحدودها فإنها إنما تؤسس لنظامها في الامتلاك وفي فرض محرماتها وما يمتنع على أي خارج عن الفصيل أو الجنس وأن أي تداخل في الموطن لا يحل إلا بالدماء، حيث الإفرازات الغريزية المحكومة بالتدمير والعنف من إجل إثبات هوية الانتماء ومن أجل البقاء في الحياة أخيرا. إن المواطنة كانتماء للهوية هي الأخرى تبقى على علاقة مباشرة بالحس السياسي كوعي قصدي يهدف إلى البناء المتكامل لمجتمع القرن ما بعد العشرين من قرون خلت، قرون عديدة كانت فيها تجارب وأحداث ومواقف خلدها الإنسان وطور من خلالها وجوده الواقعي على الأرض التي سيعمل على استنباتها بشكل وجهد خارق صارع به الجوع والجهل والمرض. وللقيام بذلك الجهد وممارسة الصراع مع الطبيعة التدميرية ولزراعة تلك الأرض الممتدة في حقول فسيحة، كان لا بد من أن تقع حوادث وأحداث دامية وعنيفة في مجملها، كما كان لازما أن تستنهض همم العقل ليستعيد حيويته في البحث عن المخارج الممكنة لحالات الصراع العنيفة.. قرون خلت حتى تعلمت مجموعات بشرية كيف تسيطر على اختلافاتها الهوياتية وتؤسس لفعل سياسي يتجاوز الهوية العصبية إن كانت صفتها لتلبس الحالة المدنية التي تظل المواطنة أحد مفاهيمها الأساس وتجسيدا للديمقراطية والحرية.