في إطار مواكبتها للنقاش الوطني الذي يهم المسألة التعليمية في المغرب، تفتح «المساء» هذا الركن لكل الكفاءات الوطنية الغيورة على قطاع التربية والتكوين في بلادنا، من باحثين ومختصين وفاعلين اجتماعيين ورجال تربية، للإسهام -كل حسب قناعاته- في دينامية هذا النقاش. وقد رأينا، في الملحق التربوي، أن تكون مسألة بيداغوجيا الإدماج، أول الموضوعات التي نقاربها، لما أثارته من تجاذب ونقاش، تربوي، نقابي، إداري وإعلامي، خصوصا النقاش الذي ظهر على هامش قرار الوزارة القاضي بإلغاء العمل بهذه البيداغوجيا المثيرة للجدل.. يطلب المدرس(ة) من التلميذ أن يكون طيعا وخاضعا، وهذا ما يهم في نهاية المطاف وليس المعرفة. لن ينوب المدرس عن التلميذ في تعلمه. إن التعلم قدر التلميذ ذاته. والتعلم، كذلك، ليس هو انتظار من يعرف كيف يحمل معارفه ليلقيها أو يلقنها لمن لا يعرف. علينا الاقتناع بأنه على كل تلميذ أن يبني بنفسه معارفه الخاصة؛ ولا يقتصر هذا الجانب على جعله نشيطا فحسب (يمارس النشاط يدويا أو السقوط في التنشيطية الفارغة)، بل أن يكون هو الفاعل، أي صاحب الفعل (النشاط الذهني). ما يلاحظ هو أنه حينما نطلب من المدرسين الإجابة عن السؤال ما معنى التعلم في إطار مهنتهم تصب الإجابات في ما يقوم به المدرسون ليكسبوا التلاميذ بعض أنواع المعارف. ألا يكمن هنا الخلط بين التعلم والتدريس apprendre et enseigner؟ لا يهمنا الخلط الذي تتسبب فيه اللغة الفرنسية بمرادفتها بين الكلمتين. ثم إن ما نرمي إليه لا ينحصر في المعنى اللغوي، فالتعلم يهم التلميذ والتدريس يرتبط بالمدرس. سنكرر ما قلناه سابقا، يمكن للمتعلم وحده أن يتعلم وليس لنا غير وضعه في وضعية تمكنه من تملك المعارف. فالتعلم ليس هو ما يقدمه لنا العارف. إن التعلم هو قيام التلميذ بنفسه بمعرفة في العمق، وإذا رفض أحد التلاميذ التعلم لا يمكننا إجباره على ذلك ولا الحلول محله للقيام بما كان عليه أن يقوم به. ولو توهمنا بأننا نمثل من يعرف ويعلم كثيرا بإمكاننا التعلم كثيرا إذا ما قبلنا الاستماع للتلاميذ ولاحظنا ما يحدث حولنا. ليقوم التلميذ بإنجاز نشاط تعلمي ما لا يقتصر الأمر على الفهم؛ إنه التعلم، وهو إعطاء المعنى للنشاط؛ بمعنى الإحساس بأن الأمر يهمه. فلا معنى لأنشطة لا تمس التلميذ لأن ذلك يجعلنا ندرس مشاريعنا نحن، ومشاكلنا نحن، واهتماماتنا نحن، والتزاماتنا نحن المدرسين... وليس ما يرتبط بالتلميذ ويهمه. فكيف يحدث التعلم في هذه الشروط، وبالتالي فإن إعطاء أو إضفاء المعنى على ما يتعلمه التلميذ الذي يعني أن يعيش ما يتعلمه؟ إن المدرسة التي تختفي فيها الحياة لا تعلم سوى البربرية. ينبغي أن تعلم المدرسة الالتزام والانخراط. ربما نميل جميعا كمدرسين أو تصيبنا الرغبة لتنمية الاستقلالية والفكر النقدي والمسؤولية وإكساب طرق البحث للتلميذ... إلخ. فهل ننمي كل ذلك فعليا؟ لا يكفي التوفر على استعمال زمني وقضاء ست أو ثمان ساعات بمؤسسة تعليمية للتعلم. ففي غالب الأحيان لا يكتسب التلاميذ معارف حقيقية بل معارف أو إنتاجات ميتة لأنها تقدم لهم كحقائق غير قابلة للنقد والتطور والتجاوز. فالاشتغال على المعنى وبناء المعارف والكفايات يكون بغاية إعادة استعمالها، وهي أبعاد أساسية للتعلم. إنه لمن الضروري أن يتساءل المدرس عن الطريقة التي تقوم عليها عملية التدريس اليوم حتى لا يطرح المشكل على السبورة، بل يطرحه للتلاميذ! إن المقاربة التي نرمي إليها تسير عكس اتجاه ثقافتنا البيداغوجية، وعاداتنا؛ أي أنها تسير ضد مفهومنا للمدرس العارف، المالك للسلطة. صحيح أن المدرس يهيئ طريقته أو مقاربته ذهنيا إلا أنه غير ملزم باتباعها. وإذا لم يكن في مثل هذه الحالة الذهنية فإنه لا يستطيع إعداد وضعية مشكلة مما يجعلها تافهة وغير ضرورية. وإذا لم يفهم التلاميذ ما سيقومون به ولماذا يقومون بذلك لأننا لم نسمح لهم بالوعي بذلك فإننا سنسقط في غباء التخصصات، وبالتالي ستصبح الوضعية المشكلة عبئا ثقيلا على التلاميذ. لا بد من الإشارة إلى أن هذا النوع من البيداغوجيا يرتبط بقيم لم تتطور بعد في التعليم، فالوضعيات المشكلات تحمل قيما إذا لم يتملكها المدرس ستبدو مصطنعة، ولذلك على المدرس أن يكون واعيا تمام الوعي بذاته وبما يقوم به وبما يقوله. كما أن الطريقة التي سيسلكها المدرس في بناء الوضعية المشكلة تشكل جزءا من مفهوم الوضعية المشكلة. لا يمكن أن نجعل الآخرين يعيشون فعليا ما عشناه نحن، كما لا يمكن أن نفهم بعمق إلا ما يمسنا نحن أو يثيرنا نحن، أي ما يجعلنا ننتج معنى في وضعية واقعية. إن مدرسا مثل ما ألمحنا إليه لن يكون هبة من السماء، إنه نتاج تكوين وثقافة مهنية، وذلك ما سنفصل فيه حالا. علينا أن ندرك بأنه للمدرسين والمدرسات الذين يشعرون بأنهم صاروا مهنيين لغة للممارسة وأثناء الممارسة لأن ذهنية المهنية محكومة بهابتوس ما. وكما أنه للنقابات مصالح تعبر عنها بكثافة الشعارات، من دون أن نغفل المجتمع والوزارة ومراكز البحث العلمي والأكاديمي. والملاحظ أن مهنة التدريس لها علاقة بمهن الإنساني لأنها تواجه وضعيات اجتماعية معقدة ترتبط بالمؤسساتي والشخصي ... إلخ. إن مهن الإنساني كمهنة التعليم تقوم على الرهان والاشتغال في العشوائية والصدف وعدم الفهم الدائم واتخاذ القرارات في اللايقين، فيما يشدنا ويفصلنا. نكون في النشاط استراتيجيين لمعرفتنا بالبرنامج الدراسي، وقادرين على معالجة ما هو خارج عن البرنامج. ونكون إكلنيكيين منطلقين مما لدينا ومن المنتظر منا، ومن المرتكزات التي نتوفر عليها. ونتملك الحدس والرؤية الخاطفة والذكاء والحساسية في اللحظة، والقدرة على الاشتغال في العلاقة والتورط فيها. يتطلب هذا الأمر، كما قال موران يوما، فكرا خاصا وقدرة على التأمل بالشيء وفيه كشيء. أستاذ باحث في علوم التربية