قليلو الكلام حتى إنك تحسبهم ولدوا بأنصاف ألسنة، عيونهم ضيقة، لكن نظراتهم تلسع مثل شفرات الحلاقة، كلماتهم مقتضبة ونافذة مثل سهام صغيرة حارقة.. إنهم الصينيون الذين يتاجرون في كل شيء، مثلما يمكن أن تجد عندهم كل شيء، من الإبرة إلى الثلاجة. لا يقفلون محلاتهم إلا في ساعات متأخرة، ولا يؤمنون بوجود شيء اسمه يوم عطلة، فقد تعلموا فوق كراسي مدارسهم أن هذه الكلمة أكبر مسبب للاكتئاب، فالعمل عندهم أشبه بالعشق لا يمكن للمرء أن يعطله بسبب عيد وطني. ورث الإسبان عن ملوك الطوائف حب المرح والشرب، وزادوا من عندهم الصراخ في الشوارع والكلام بصوت مرتفع أثناء الأكل وشرب القهوة، ففي قاموسهم لا يمكن أن تكون الحياة جديرة بمعانيها إذا لم تكن صاخبة ودافقة بالحرارة، هم يحبون الحياة حتى لو لم يستطيعوا إليها سبيلا. لذلك فإسبانيا هي مملكة الصخب بامتياز، لكن الصينيين أثبتوا أن الصمت ليس لغة الموتى، بل هو أبلغ من الصخب وله دوي يفوق الضجيج. كان الإسبان يستغربون حركات الصينيين الخفيفة وابتساماتهم السريعة التي ترسم على عجل، لكن أبناء قشتالة ما لبثوا أن وقعوا في شباكهم، باتوا ميالين أكثر إلى تناول وجبة الفطور واحتساء فنجان قهوتهم اليومي في المطاعم التي يديرونها، بعضهم يقولون إنهم يجدون راحة أفضل من ارتياد المطاعم التي يديرها أبناء جلدتهم، فالإسباني دائم الشكوى، يلعن الدنيا عندما يرى الطاولات فارغة، ويشكو همه بصوت مرتفع وهو يدخن السيجارة تلو الأخرى، ثم تظهر عليه علامات السخط عندما يتقاطر عليه الزبائن ويبدأ في الشكوى من كثرة الطلبات وتراكم العمل بطريقة صاخبة. في جميع مدن إسبانيا يحدث أن تصادف مغربيا أو إفريقيا يتسول في الشارع أو شخصا من أوروبا الشرقية يسرق في الميترو، لكنك لن ترى الصينيين إلا في المتاجر يعملون، لا يعرف أحد أين يصرفون أوقات فراغهم التي تكاد تكون منعدمة، لا يدعون أحدا إلى بيوتهم عندما ينظمون حفلاتهم الخاصة، كما لا يُعرف أين يتزوجون ولا ما يفعلون بموتاهم، كل شيء يمر في صمت، لا تستهويهم حفلات الفلامنكو ولا مصارعة الثيران، ومع ذلك يعيشون تفاصيل الحياة الأوروبية بطريقتهم الخاصة. أحدثت وسائل الإعلام الإسبانية ضجة كبيرة عندما أشارت إلى أن عددا كبيرا من الإسبان باتوا يقومون بتبني أطفال صينيين، إنهم جيل جديد من أبناء التنين، يتكلمون الإسبانية بدون لكنة، ويذهبون إلى المدرسة بالزي النظامي، معظمهم مازالوا أطفالا يتربون في كنف الإسبان، لكن الجميع على أعصابهم، يريدون أن يعرفوا ما إذا كان هؤلاء الإسبان ذوو الدماء الصينية النقية سيملؤون الشوارع ضجيجا أم صمتا.