عاد الملف النووي الإيراني إلى واجهة الأحداث في اليومين الماضيين بقوة بعد غياب استمر أسابيع، بسبب انشغال العالم بتطورات الأوضاع على الأرض في سورية وجولات كوفي عنان، المبعوث الدولي، الرامية إلى إيجاد مخرج سياسي من الأزمة. ثلاثة تطورات رئيسية تتعلق بهذا الملف حدثت في الأيام القليلة الماضية، يمكن أن تؤشر على ما يمكن أن يحدث من إجراءات أو خطوات، نجد لزاما علينا التوقف عندها متأملين: - الأول: اللقاء الذي عقدته السيدة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأمريكية، مع وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، يوم السبت الماضي في الرياض، وحثتهم فيه على المشاركة في مشروع درع صاروخي تنصبه أمريكا في مواجهة إيران؛ - الثاني: تهديد السيد مسعود جزائري، أحد أبرز قادة الحرس الثوري الإيراني للولايات المتحدةالأمريكية، وقال فيه «إن ردنا سيكون ساحقا على أي هجوم أمريكي أو إسرائيلي على إيران، وهذا الرد لن يكون في نطاق الشرق الأوسط والخليج الفارسي فحسب. لن يكون هناك مكان في أمريكا بمأمن من هجماتنا». وأضاف في حديثه نفسه إلى صحيفة «إيران» اليومية: «ينبغي لأمريكا والصهاينة والرجعية العربية الانتباه إلى أننا سنواجههم بجدية حيثما تعرضت مصالح الجمهورية الإسلامية للتهديد»؛ - الثالث: الكشف عن تقرير إسرائيلي اطلع عليه المجلس الوزاري المصغر برئاسة بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء، يؤكد تقديرات تفيد بأن إسرائيل يمكن أن تتعرض لهجوم صاروخي يستمر لثلاثة أسابيع من لبنان وقطاع غزةوإيران وسورية، وأن عدد القتلى سيكون في حدود 300 شخص فقط. التهديدات الشرسة التي أطلقها السيد جزائري بضرب مصالح أمريكية داخل أمريكا نفسها، أو في كل شبر فيها، قد تكون في إطار الحرب النفسية، والشيء نفسه يمكن أن يقال أيضا حول التقديرات الإسرائيلية المتواضعة جدا لعدد القتلى الإسرائيليين في حال انفجار حرب إقليمية شاملة في المنطقة. نشرح أكثر ونقول إن إيران ربما تملك قدرات عسكرية تؤهلها نظريا لضرب قواعد وأهداف أمريكية وعربية في منطقة الخليج العربي، مثل الصواريخ والزوارق الانتحارية السريعة، ولكن من الصعب الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك وضرب أهداف في ولايات أمريكية مثل نيويورك وواشنطن وكاليفورنيا وغيرها، ليس لأنها أهداف بعيدة فقط، وإنما لأن أمريكا تملك درعا صاروخية يمكنها اعتراض أي صاروخ إيراني، مع افتراض وجود مثل هذه الصواريخ بعيدة المدى، اللهم إذا كان السيد جزائري يتحدث عن خلايا نائمة مزروعة داخل الولاياتالمتحدة، وهذه مسألة أخرى. أما محاولة الإسرائيليين تقليص عدد الخسائر البشرية المتوقعة في حال حدوث أي هجوم من قبل إيران وحلفائها، فهذا خطاب موجه إلى الإسرائيليين، وللاستهلاك الداخلي، فهناك حالة من الرعب تسود الإسرائيليين حاليا، وهم الذين عاشوا تحت الأرض لأسابيع أثناء حرب يوليوز عام 2006، وهروب مليون منهم على الأقل من منطقة الجليل المتاخمة للحدود اللبنانية، بحثا عن الأمان في الوسط والجنوب الفلسطينيين. والقول بأن عدد الضحايا سيكون في حدود 300 قتيل فقط هو من قبيل طمأنة الإسرائيليين الهلعين، الذين تعارض غالبيتهم أي هجوم على إيران، حسب استطلاعات الرأي التي نشرتها الصحافة الإسرائيلية نفسها. وفي الإطار نفسه، أي تسويق الضربة الإسرائيلية لتدمير المنشآت النووية الإيرانية للرأي العام الإسرائيلي، نشر آموس يادلين، مدير المعهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي وأحد الطيارين الذين هاجموا مفاعل تموز النووي العراقي (أوزيراك) في السابع من يونيو عام 1981، مقالة في صحيفة «نيويورك تايمز» قبل شهر كان محورها نجاح هذه الضربة في إنهاء الطموحات العراقية النووية إلى الأبد، وبتبديد المخاوف حول رد انتقامي عراقي أو عربي ضد إسرائيل لاحقا، وبالتالي عدم وقوع أي خسائر بشرية إسرائيلية. استنتاجات يادلين هذه مضللة للغاية، فالطموحات النووية العراقية لم تتبدد بتدمير مفاعل تموز بل إنها بدأت، واقتربت كليا من إنتاج قنابل نووية، وهذا ما أكده المفتشون الدوليون الذين دمروا هذه البرامج لاحقا، عندما اكتشفوا خططا عراقية سرية لتخصيب اليورانيوم على درجة كبيرة من التقدم، وغير معروفة في السابق، مثلما اكتشفوا أن العلماء العراقيين كانوا يمتلكون القدرة العلمية على إنتاج رؤوس نووية في أي وقت، حتى بعد تدمير المنشآت النووية العراقية، وهذا أحد الأسباب التي دفعت أمريكا إلى احتلال العراق، واغتيال أكبر عدد من العلماء النوويين العراقيين، سواء من قبل عملائها المحليين العراقيين، أو الأمريكيين أنفسهم، وهناك من يضيف أن المخابرات الإيرانية شاركت في عمليات التصفية هذه. لا نعرف ماذا كان رد وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي على طلب السيدة كلينتون بالانضمام إلى مشروع الدرع الصاروخية الذي تريد إقامته في مواجهة إيران، ولكننا نستطيع أن نتكهن، بالاعتماد على تجارب سابقة، بأن الرد سيكون إيجابيا للغاية، وعلينا أن نتوقع رصد عشرات، إن لم يكن مئات المليارات، لشراء هذه الصواريخ وبطارياتها، إضافة إلى 130 مليار دولار أخرى رصدتها هذه الدول، والمملكة العربية السعودية بالذات، لشراء طائرات حديثة من طراز «إف 15» و«إف 16» المتطورة. ليون بانيتا، وزير الدفاع الأمريكي، توقع أن تقدم إسرائيل على مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية بين شهري أبريل الحالي ويونيو المقبل، اللهم إذا كان الرئيس الأمريكي باراك أوباما نجح في إقناع نتنياهو بتأجيل الهجوم لما بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية الأمريكية في نونبر المقبل. اللافت أنه في الوقت الذي يبدأ فيه الإسرائيليون منذ الآن في تحديد أعداد ضحاياهم، حتى لو كان ذلك لأهداف نفسية، فإننا كعرب لا نعير أي اهتمام لهذه المسألة، بل لا نبالغ إذا قلنا إن مثل هذا التوجه هو من المحرمات، فممنوع علينا أن نتحدث عن الخسائر التي يمكن أن تلحق بنا أو الدمار النفسي والمادي الذي يمكن أن يلحق بمنطقتنا، وبالخليج العربي بشكل عام، والصورة التي ستكون عليها المنطقة بعد انفجار هذه الحرب؛ فالاتهامات جاهزة بالوقوف في الصف الإيراني لأي أحد يعبر عن الحد الأدنى من المخاوف أو يعارض أي هجوم إسرائيلي أو أمريكي على إيران بالتالي. غونتر غراس، الأديب الألماني الشهير الحائز على جائزة نوبل في الآداب، كان أشجع منا جميعا، عندما نشر قصيدة يوم أمس (يقصد الأربعاء الأخير) في صحيفة «زود دويتشه تسايتونغ» اليومية سخر فيها من إقدام إسرائيل، صاحبة القوة النووية،على تهديد إيران التي لا تملك مثل هذه الأسلحة بعد، وقال إنها أي إسرائيل تشكل مصدر تهديد للسلام الدولي الهش، وانتقد بلاده التي ستزودها بغواصة نووية أخرى في الأيام المقبلة، وطالب بسلطة دولية تفتش المنشآت النووية الإسرائيلية والإيرانية بالقدر نفسه. هذا الكلام لم نعد نسمعه للأسف من أي مسؤول عربي، وآخر شخص ردده بمثل هذا الوضوح هو السيد عمرو موسى عندما كان وزيرا لخارجية مصر عندما قال إن مصر لن توقع مجددا على معاهدة منع الانتشار النووي إلا بعد توقيع إسرائيل عليها، فكان جزاؤه الركل إلى أعلى، أي شحنه إلى الجامعة العربية، أمينا عاما، وإصدار الرئيس المخلوع حسني مبارك أوامره بتوقيع المعاهدة المذكورة دون تردد، وهكذا كان.