يحاول الكاتب طوما بييري في كتابه «البعث والإسلام بسوريا.. سلالة الأسد في مواجهة علماء الدين»، تسليط الضوء على موضوع حيوي وحاسم لم يحظ بالعناية اللائقة واللازمة من لدن الباحثين، ألا وهو موضوع علاقة حزب البعث بالإسلام، وما هي الحسابات الكامنة وراء العلاقة التي تحكم عشيرة الأسد، الأب والابن والإخوة وأبناء العمومة، برجال الدين وجدلية الإغراء والنبذ التي تطبع سياستها معهم. حفظ التاريخ المعاصر الصفحة القاتمة لمجزرة حماة، التي تضاربت في عدد ضحاياها الآراء والروايات. وقد استهدفت المجزرة جماعة الإخوان المسلمين، لكنها طالت رمزيا أيضا باقي الديانات. إذ شمل الهدم ثلاث كنائس، علاوة على 88 مسجدا. وفي ما يخص تقديرات الضحايا، ثمة من تحدث عن 10 آلاف قتيل، فيما أشار مصدر آخر، هو اللجنة السورية لحقوق الإنسان، إلى أن حصيلة القتلى ناهزت 40 ألفا. وقد اندلعت الأحداث في الثاني من فبراير عام 1982 واستمرت 27 يوما لتضع في قلب المواجهة، رأسا إلى رأس، النظام السوري والإخوان المسلمين. اليوم يعيد التاريخ نفسه مع المجازر اليومية، التي يقترفها نظام بشار الأسد في حق شعب بكامله، ليطال هيئة العلماء ورجال الدين. وإن سلط المحققون والخبراء الأضواء على الأبعاد السياسية، الاقتصادية للوضع السوري، وعلى عشيرة الأسد، الأب والابن والإخوة وأبناء العمومة، فإن ثمة موضوعا حيويا وحاسما لم يحظ بالعناية اللائقة واللازمة، ألا هو موضوع علاقة حزب البعث بالإسلام. ما هي الأسس التي تقوم عليها هذه العلاقات؟ أي منطق يتحكم فيها؟ وماهي الحسابات الكامنة وراء العلاقة التي تحكم نظام البعث برجال الدين وجدلية الإغراء والنبذ التي تطبع سياسته؟ ذاك هو الموضوع الذي انكب على فحصه ودراسته، في المسألة التي تهم العلاقة بين سلالة الأسد والعلماء، الباحث طوما بييري. وهو باحث معرب ودكتور في العلوم السياسية بمعهد الدراسات السياسية بباريس وأستاذ بجامعة لوفان الكاثوليكية في بلجيكا، سبق له أن حاضر بجامعة برينستون، وهو اليوم أستاذ محاضر بجامعة إديمبورغ بألمانيا. الكتاب أصلا أطروحة جامعية أنجزت في إطار برنامج الدكتوراة التابع لمعهد الدراسات السياسية في باريس والمخصص للعالم الإسلامي. يرى بييري أن علماء سوريا السنيين كانوا في قلب التحولات السوسيو-سياسية، التي سبقت انتفاضة 2011. وسيكون لهم في آخر المطاف دور الحسم في مصير سلالة الأسد. علماء السنة نخبة حضرية، متدينة، محافظة، كانوا في عقد 1960-1970 من المعارضين الرئيسيين لسياسات النظام البعثي المتأتي من البوادي، والذي كانت تنشطه مثل عليا لائكية وتتحكم فيه أقلية علوية. لكن في بداية الثمانينيات، سحق النظام انتفاضة الإسلاميين، التي كان أحد أطرافها الرئيسيين عددا من أبناء هؤلاء العلماء. أما البقية ففضلت مغادرة سوريا والنزوح إلى الخارج. بعد ثلاثة عقود، وفي الوقت الذي اشتعل فتيل المواجهة مجددا، أصبح نفوذ رجال الدين في المجتمع السوري في تزايد مطرد. والسبب في ذلك الحماس الديني المتزايد للسكان والممارسات السياسية الرسمية، التي حافظت على نزعتها القمعية والاستئصالية. تصالح النظام مع قاعدته الحضرية يشكل رجال الدين اليوم أكثر من أي وقت مضى تهديدا حقيقيا على النظام، مع العلم أنه بحكم الواقع المعقد لا يمكن الوقوف عند طبيعة هذا الخطر أو هذا التهديد الذي يشكله رجال الدين. إذ انشقت كوكبة من كبار علماء دمشق وحلب عن النظام، وهو وضع يمكن تفسيره بالتهديدات التي يتعرضون لها من طرف الدولة. ويفسر أيضا بإقامة في العقود الأخيرة لشراكة مبهمة بين النظام وقسم متزايد من رجال الدين. تندرج هذه الدينامية في دينامية أخرى أوسع نعاين تطوراتها عن قرب: ألا وهي التقارب الذي نهجه النظام البعثي مع أعدائه القدامى، والنخب الحضرية إلى حد إدارة ظهره لقاعدته الاجتماعية الأصلية، الريفية والشعبية التي ينتمي إليها الفاعلون في الانتفاضة الحالية. المساجد منصة الانتفاضة قد نبسط الأشياء بشكل مبالغ فيه لو جزمنا بالقول إنه بعد نصف قرن من انقلاب حزب ميشال عفلق، أخذ العلماء مكانهم في الصف المناهض للثورة. ذلك أنه إن عرفت اليوم الأحياء المركزية لدمشق بعضا من المظاهرات، فإن الأهم منها انطلق من المساجد التي ترمز إلى تقاليد المقاومة الإكليريكية للاستبداد البعثي. بمعنى آخر، سواء تعلق الأمر بنزعة التقية التي انتهجها بعض العلماء أو بالمواقف المتمردة لبعض زملائهم، فإنها تجد أصلها في المسلسلات القديمة، التي يعكف على دراستها هذا المؤلف. ويمزج البحث بين التحقيق السوسيولوجي-الأنثروبولوجي الميداني والتحليل النظري. «في 31 مارس 2007 أرخى الليل سدوله على مسجد الشيخ عبد الكريم الرفاعي، وهو المسجد الذي شيد بناء على هندسة مستقبلية احتفاء بأحد العلماء الذين توفوا عام 1973. بعد أربع سنوات بالتحديد، انطلقت من هذا المكان أولى المظاهرات ضد نظام بشار الأسد. تزاوج ذلك مع الاحتفال بعيد المولد النبو. شلت الزحمة الأزقة والشوارع المؤدية إلى مسجد الرفاعي. داخل المسجد الذي اكتظ عن آخره، جلس المصلون على السجادات، فيما توزع العلماء والتجار وبعض الأعيان على كراس بلاستيكية أو على كنبات جلدية. ولثلاث أو أربع مرات تدخل العلماء لإيقاف التهاليل. لا شيء كان ينذر خلال هذا الحفل الديني بأنهم بصدد إحياء حفل ديني تقليدي. لم يحضر أي مسؤول رسمي. كانت تفصل سوريا عن الاستفتاء للتجديد لبشار الأسد شهران. وتضمنت الخطبة التي ألقاها الشيخ أسامة الرفاعي، مفتي المسجد وهو الابن الأكبر للشيخ عبد الكريم الرفاعي، إنذارا للنظام، حيث ربط شرعية هذا الأخير بضرورة «عودته إلى الإسلام». «علي أن نبه حكام البلد بأن «سلطتهم تستند على سلطة الأمة. وبما أن الأمة عادت إلى دينها فإنه لا خيار لهؤلاء الحكام سوى أن يترجموا رغبات الشعب ورفع راية الإسلام»، يقول الشيخ أسامة الرفاعي. أن يوجه المفتي، وكان منفيا سياسيا، خطابا من هذا القبيل، يُظهر أن تحولات عميقة اعترت العلاقات بين العلماء والنظام منذ القمع الدموي للانتفاضة الإسلامية التي وقعت بين 1979-1982. رجال الدين الذين وجهت إليهم ضربة قاضية في عقد الثمانينيات، انتهزوا فرصة إفلاس الأيديولوجية البعثية واستئصال الإخوان المسلمين لإعادة بناء قوتهم وتنمية هوامش حرياتهم في إطار شراكة غامضة مع السلطة. الرائع في الأمر أن العلماء السوريين الأكثر شهرة في بداية القرن الواحد والعشرين ليسوا جميعهم زبناء تقليديين للنظام، وأن وجوها أخرى، مثل أسامة الرفاعي، عانت مدة طويلة من قمع النظام. تصحيح لبعض الأفكار المسبقة سعى هذا الكتاب إلى تصحيح بعض الأفكار المسبقة عن النظام السياسي السوري. أولى هذه الأفكار هي القائلة بأن النظام، بحكم تقاليده العلمانية وتحكم أقلية علوية في دواليبه، لا يحظى بأي شرعية دينية لدى السنة. غير أن البحث أثبت بأن النظام نجح في إقامة علاقات تعاون موثوقة، لكنها قوية مع فاعلين دينيين لهم مصداقيتهم في أعين الكثير من مسلمي سوريا. للتمكن من فهم التطورات الراهنة للعلاقات القائمة بين الدولة ورجال الدين يقتضي أيضا التخلص من مقاربة أخرى شائعة بخصوص السياسة المحلية، التي تنحو إلى تضخيم أهمية المراوغة التي يوظفها النظام. من هذا المنظور فإن إعادة بناء القوة التدريجية لرجال الدين قد تكون محصلة سياسة رسمية قد تشجع على تطور إسلام تقوي (قائم على التقوى). وكما تثبت حالة أسامة الرفاعي وشبكته، فإن النظام السوري أخذ بعين الاعتبار حالة فاعلين يبقى تجذرهم الاجتماعي محصلة مسلسل طويل. بتعبير آخر، لم يشجع النظام على إعادة أسلمة المجتمع، لكنه رافقه مع محاولة الحد من آثاره السياسية. تستتبع هذه المسألة إثارة النقاش في موضوع مصير رجال الدين السنيين، وبشكل أعم تمس قضية تحولات السلطة الدينية في المجتمعات المعاصرة. لم يخسر رجال الدين كل المعارك واجه علماء سوريا في القرن العشرين ليس فحسب الاستبداد الإكليريكي (استبداد رجال الدين الرسميين)، بل التحولات البنيوية التي قوضت، مثلما هو الشأن في بقية دول العالم، قواعد سلطتها. هذه الأخطار المرتبطة ببناء الدولة الحديثة تهم علمنة القانون، تأميم المؤسسات الدينية وتحديث التعليم. أول هذه التطورات إلغاء دور فئة هامة من رجال الدين من المؤسسات القضائية لصالح خبراء في القانون الوضعي. التطور الثاني شمل وضع الأوقاف تحت مراقبة الدولة، وتحويل رجال الدين إلى موظفين، وهو تحول قمين بالتأثير في استقلاليتهم الاقتصادية ونزع احتكارهم لتكوين الأشخاص الذين يخلفونهم. أما فيما يخص تحولات النظام التربوي، فقد أنتجت نموذجا آخر من المتعلمين يعتبرون العلماء طبقة تنتمي إلى عهد آخر. ويلاحظ أنه بفضل انتشار وسائل الإعلام تقلصت سلطة العلماء. وإن واجه رجال الدين جميع هذه الأخطار فإن نتيجة المعركة كانت لصالحهم في نهاية المشوار. ونحن على مشارف القرن الواحد والعشرين، وبما أن مسلسل البيروقراطية بقي هامشيا، فإن علماء الدين حافظوا على استقلالية مادية مريحة بفضل شراكتهم مع القطاع الخصوصي. علاوة على ذلك تابعوا ممارسة المونوبول، أو على الأقل لعبوا دورا حاسما في إنتاج رجال دين المستقبل. كان علماء الدين أول الفاعلين الذين قدموا أجوبة عن الانبثاق السوسيولوجي ل«الصحوة» الإسلامية المعاصرة، أي التزايد المطرد للطلب على التربية الدينية. تكلف هؤلاء العلماء بشريحة عريضة متعلمة راغبة في دراسة القرآن، الحديث والسنة. كما استغل الشيوخ الإمكانيات التي توفرها وسائل الإعلام للوصول إلى جمهور واسع.
آل الأسد وعلماء السنة.. محاولات للاحتواء الغاية من هذا البحث هو تسليط الأضواء على النخبة الدينية السنية السورية، وهي الفئة التي لا تحظى بالعناية اللازمة. كما يطمح إلى إثراء متن الأشغال التي تمت في حقل العلوم الاجتماعية والمخصصة لعلماء الدين المعاصرين، وهو ميدان للبحث حديث النشأة حجبته الأطروحات «التراجعية» المتأثرة بالنظريات العصرية. القسم الهام من البيبلوغرافيا المتخصصة في الإسلام السوري الحديث تهم من جهة الإخوان المسلمين، ومن جهة ثانية المرحلة التي تنطلق من القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين. مع الإشارة إلى أن دراسة هذه المرحلة الأخيرة تتركز أساسا على قضايا الإصلاح الإسلامي والتقاليد الصوفية. أما فيما يخص الإشكاليات الأكثر حداثة، فإنه علاوة على الطرق الصوفية تنصب الأشغال الحالية على السياسات والخطابات الدينية للدولة، على الفاعلين المقربين من السلطة مثل طريقة المفتي أحمد كفتارو، سعيد رمضان البوطي، وعلى قضايا الإسلام الإصلاحي، وأيضا استعمالات الإنترنت بواسطة الفاعلين الدينيين والإفتاء النسائي أو علاقة المهندسين بالأيديولوجية الإسلامية. يقود البحث القارئ إلى المدارس الدينية وإلى المساجد بغية الوقوف على حركات غير تربوية واسعة يرأسها علماء، لكنها تجند عناصرها من الكليات العلمانية. كما يقف على الدور الرئيسي الذي قام به رجال الدين لتطوير جمعيات البر والإحسان، ويدرس الهزيمة التاريخية لعلماء الدين السلفيين مقابل خصومهم التقليديين، دون إهمال مسألة وزن القبائل البدوية ضمن النخبة الدينية لمدينة حلب. وهو بذلك إضافة قيمة للأبحاث المخصصة لسوريا ولعلاقة نظام عشيرة الأسد، الأب والابن، بعلماء الدين، وجدلية الشد والجذب التي تحكمهما.