التعليم والتثقيف صنوان للتنوير، وأما التجهيل فكان، دوماً، أداة للطغيان، ومتى استشرى الجهل في قوم صاروا عبيدا لحكامهم، ولم يعرف العالم الحر سبيله للتحرر الجماعي الذي نسعى، بشكل حثيث، إلى الاقتداء به إلا بعد أن تحرر أفراده، فتحررت العقول من الخرافة والوصاية والقلوب من الخوف والترهيب.. عندها، تحررت ملكاتهم فأبدعوا وأجادوا وأفادوا.. ويُعلّمنا التاريخ أن الخائفين والجاهلين هم سند المستبدين في أي زمان وأي مكان وجدوا واستنبتوا... ويعلمنا هذا التاريخ، أيضا، أن الحرية والحق لا يستقيمان دون علم والتزام، فالأحرار الحقيقيون هم متنورون وملتزمون بالضرورة، فإنْ كان بعض الشباب المغربي اليوم يعتقدون أنهم تحرروا من الخوف وأضحوا يجدون في أنفسهم مقدرة على أن يقولوا ما يفكرون فيه دون أن يفكروا في ما يقولونه، فلأن زوال حجاب الخوف عندنا لم يرافقه، للأسف، زوال لحجاب الجهل بعموم المعنى.. فاليوم، من السهل أن نعلن كل شيء باسم كل شيء، ونشتم الجميع باسم شعارات تحكمها الأهواء والانفعالات.. ونمضي إلى بيوتنا مطمئنين أننا أضحينا «مناضلين لا يشق لنا غبار»!.. اليوم، من السهل أن نضرب عن العمل لشهور، معتقدين أننا أصحاب قضية وحق مطلق، مع أننا نفوّت على أنفسنا، في كل مرة نقوم بذلك، فرَصاً ثمينة لمساءلة وضعنا، إن كان فعلا ما نقوله ونطالب به يستقيم والمهمة التي التزمنا أمام هذا الشعب أن نؤديّها بتفانٍ، عندما نتقاضى أجورنا من جيوب هذا الشعب، ولكننا نساهم في تجهيل أبنائه.. ونقدمهم لقمة سائغة للمستبدين والفاسدين.. وإلا ما معنى أن ينقطع مدرّسون عن فصولهم الدراسية لشهور، باسم الحق، متناسين حق أبناء الشعب!؟.. ما يؤسف له هو أن المدرسة المغربية كانت، على مدى 40 سنة، رقعة شطرنج تدار من خارجها، يشارك في لعبتها لاعبان اثنان، وتتحكم في قواعدها عقول لم تنتمِ إليها يوما، لذلك كانت كل برامج إصلاح التعليم يراد منها التجهيل أو تنتهي إليه (التجهيل)، إذ كان النظام، على مدى أربعين سنة، ينظر إليها باعتبارها مشتلا لاستنبات الانقلابيين والساخطين والمعارضين.. وكانت قوى المعارضة، في المقابل، تعتبرها ورقة قوية لمحاربة هذا النظام، وهذا ما يُفسّر القوة التي كانت للأذرع التعليمية للنقابات المعارضة، أما اليوم فما تزال القطعة ذاتها، ولكنْ ليس بين لاعبَيْن اثنين، بل بين لاعبِين كُثر، أغلبهم يلعبون بعبث وبدون قواعد...والنتيجة هي أن المدرسة المغربية ليست الشيء ذاتَه عند كل الفاعلين فيها.. اليوم، إن كنا فعلا مؤمنين بكوننا قد دشّنّا، بعد 9 مارس، مغربا جديدا، فإن اللبنة الأولى لبناء هذا المغرب هو التثقيف والتعليم، ومن العبث أن نطمئن إلى بروباغندا كشف لائحة المنتفعين بالمأذونيات أو تقديم هذا «الفأر» أو ذاك للمحاكمة.. فعملية التغيير لا يمكن أن تصبح تقدما بالمعنى القوي للكلمة إذا لم تكن مرفوقة بعملية وعي حقيقي لما مر، وما يجري، وما يرسم، وإذا كنا مُصمّمين على إسعاد المواطنين فيجب أن نحرر عقولهم أولا.. وهذه لم تعد اليوم مهمة تخص الدولة فقط، بل مهمة تخص الجميع، فما بين تماطل الدولة وجشع بعض فئات رجال التعليم.. تضيع هذه الحقيقة ويصبح الجميع مساهمين، بهذا القدر أو ذاك، في تكريس التخلف والجهل.. وتصبح «الحرية» في عرف أبنائنا هي تخريب الممتلكات العامة و«حرية التعبير» هي الشتم والسب والطعن في الشرف.. فنحن لم لم نوفر لزوال حجاب الخوف شروطه ليصبح تحررا بالمعنى القوي للكلمة، إذ حوّلنا تعليمنا إلى مؤسسة للإبقاء على حجاب الجهل.. والشعب الجاهل وغير الخائف نار ستحرق الجميع.. اليوم، يُفترَض أن تُكوّن توافقا الحكومة الحالية على تصور موحد لمشروع مجتمعي ما، فإذا كان الدستور الجديد قد وضع لبنات مغرب متنوع وحديث، فإنه لا يمكننا أن نسكن لبنة، بل نبني عليها ما نعتقد أنه منزل المستقبل، وهذا المنزل يصبح جحيما لا يطاق، جسما هلاميا مرعبا بعقول تكره هذا المنزل، وعقول تستغل هذا المنزل، وعقول تُخرّب هذا المنزل... فما قيمة أن نبني قنطرة جديدة أو نستورد قطارا جديدا أو نبنيّ مطارا جديدا إذا كان من سيستعمل هذه المنجزات مُخرّبا وأمّيا من ناحية ثقافة احترام المرفق العام؟.. فنحن بهذا نكون كمن يريد دخول المنزل عبر سقفه وليس من أبوابه، دون أن ندرك أن في دخولنا عبر السقف تخريبا لهذا المنزل، فنحن نراهن على تحديث المجتمع من خلال التوجه لقطاعات نعتقد أنها «منتجة»، بينما لا نلقي بالا للقطاعات التي يُبنى عليها المشروع المجتمعي للأمة، أي القطاعات التي تُكوّن وتُنمّي العقول المنتجة والمؤمنة بمصير وطنها، العقول المتنورة والمبادرة والمتطوعة، وليس «العقول» المُخرّبة والخرافية والريعية.. كما نرى ذلك هذه الأيام عند البعض ممن يطالبون بالعمل موظفين في النظام وفي الوقت ذاته يطالبون بإسقاط النظام!.. هم، وفق المثال السابق، يريدون تخريب المنزل لدخوله!..