القابلية اللا محدودة للاكتمال، هو مفهوم أساسي لفهم التصور الحديث للإنسان، حيث تم تخليصه من كل الحمولات الثيولوجية التي كانت تحد من قدراته العقلية وتسجنه في قالب أخلاقي ومعرفي ومدني قبلي، قالب يقسّم الناس إلى سادة، لهم الحق في كل شيء، ورعايا، عليهم وجبات كل شيء.. لتجعل منه، في المقابل، كائنا منتميا إلى المستقبل، كائنا بإمكانه تنمية معارفه وقيمه وثقافته ليصبح ذا مقدرة على تغيير ما كان يعتبره «حراس» الخرافات «قدرا» محتما ويرسي أسس مجتمع عماده المساواة، لذلك شكّل هذا المفهوم أساس كل التحولات التي سيشهدها العالم المتمدن في كل المستويات، فهو موقف تنويري من الدولة والثقافة والعلاقات الاجتماعية والقيّم، ثم من التربية أساسا، إذ لا معنى لكل ما يمكن تبنّيه على مستوى الدولة مثلا إذا لم يكن الأفراد مواطنين لا رعايا، مواطنين متنورين ومتعلمين.. فلمحاربة الطغيان والفساد والخرافة، لا تكفي القوانين الزجرية والمؤسسات القامعة، بل يتم ذلك بالعقول الحرة المتفتحة.. فالمفهوم التنويري للتربية، كما يحيل إليه مفهوم القابلية اللا محدودة للاكتمال، يعني تحرير الإنسان من طبيعته، يعني تعليم الشعب وتثقيفه، يعني أساسا أن الإنسان ليس سجين طبيعته بل يستطيع التحرر منها.. ومن أجل هذا ظهرت، لأول مرة في تاريخ البشرية، مؤسسة جديدة هي المدرسة العمومية، والتي تعني، بكل بساطة، تعميم فضائل التنوير على كل أفراد الأمة. مناسبة هذه الإطلالة البسيطة على أحد الأعمدة المفاهيمية للفكر الحديث هي ما راج مؤخرا عن وجود صراع محتدم بين حزبي «العدالة والتنمية» و»الاستقلال» على قطاع النقل والتجهيز، فالفكرة التي تتبادر عفويا إلى الذهن، بمجرد التفكير في هذا الموضوع، هي لماذا قطاعا النقل والتجهيز وليس قطاعي التربية والثقافة؟!.. فأن نكون أمام أربعة أحزاب سياسية مشكلة لحكومة معناه -نظريا على الأقل- أننا أمام أربع مرجعيات فكرية مختلفة، فنحن أمام حزب «إسلامي» وحزب «وطني» وحزب «شيوعي» وحزب «أمازيغي».. لذلك كان من المفترض -نظريا دائما- أن تشكل القطاعات التي لها علاقة بعقول العباد أهمية قصوى على القطاعات التي يعشش فيها الفساد، أي القطاعات التي تداوي إستراتيجيا كل أنواع الداء التي تعشش في القطاعات الأخرى، فالفساد المستشري في قطاعاتنا مجرد عرض لأزمة جوهرية هي أزمة تربية وأزمة ثقافة، لذلك ففي غياب حلول على هذا المستوى التربوي والثقافي تصبح كل برامج الإصلاح غير مجدية لأنها إما صادرة عن عقول فاسدة أو تتوجه لعقول فاسدة.. ولا نحتاج إلى المزيد من الإيضاح للتدليل على هذه الفكرة في قطاعنا العمومي.. إذا رتبنا الفقرتين السابقتين ترتيبا سببيا، سنخلص إلى أن الحكومة الحالية يفترض أن تكون توافقا على تصور موحد لمشروع مجتمعي ما، فإذا كان الدستور الجديد قد وضع لبنات مغرب متنوع وحديث، فإننا لا يمكننا أن نسكن لبنة، بل نبني عليها ما نعتقد أنه منزل المستقبل، وهذا المنزل يصبح جحيما لا يطاق، جسما هلاميا مرعبا بعقول تكره هذا المنزل وعقول تستغل هذا المنزل وعقول تخرب هذا المنزل.. فما قيمة أن نبني قنطرة جديدة أو نستورد قطارا جديدا أو نبني مطارا جديدا إذا كان من سيستعمل هذه المنجزات مخربا وأميا من ناحية ثقافة احترام المرفق العام؟.. فنحن بهذا نكون كمن يريد دخول المنزل عبر سقفه وليس من أبوابه، دون أن ندرك أن في دخولنا عبر السقف تخريبا لهذا المنزل، فنحن نراهن على تحديث المجتمع من خلال التوجه لقطاعات نعتقد أنها «منتجة»، بينما لا نلقي بالا للقطاعات التي يبنى عليها المشروع المجتمعي للأمة، أي القطاعات التي تكون وتنمي العقول المنتجة والمؤمنة بمصير وطنها، العقول المتنورة والمبادرة والمتطوعة، وليس العقول المخربة والخرافية والريعية.. كالتي نراها هذه الأيام عند البعض ممن يطالبون بالعمل موظفين في النظام، وفي الوقت ذاته، يطالبون بإسقاط النظام!.. هم كما في المثال السابق، يريدون تخريب المنزل لدخوله!.. إن غياب بوادر مشروع مجتمعي خلف التحالف الحكومي الحالي سوف يجعل تأثيره ضعيفا على مستقبل المغرب الحديث، لأنها لم تستوعب الدرس الأنواري الذي تمت الإشارة إليه في الفقرة الأولى، المؤسس على مفهوم القابلية اللا متناهية للاكتمال، وهو مفهوم ثلاثي الأبعاد، كما تمت الإشارة: سياسي، تربوي وثقافي، بمعنى أن الدولة الديمقراطية تستلزم مؤسسة تربوية عمومية، وهذه تستلزم فكرا عقلانيا.. وبهذا، تلعب المدرسة العمومية دور الوسيط بين تطورات العلوم والمعارف الفنون والمواطن الذي يختار، بدوره، رجال الدولة، بمعنى أنه من واجب الحكومة أن تدخل التربية في إطار واجب الدولة تجاه مواطنيها وأن تكون بالتالي مفتوحة في وجه الجميع، فبتعميم التربية فقط يصبح المغرب قادرا على جعل المساواة المصرح بها قانونا مساواة واقعية وعينية، إذ يجب على المدرسة العمومية أن تكمل العمل الدستوري، بمنحه جوهرا فعليا ودلالة عينية، إذ ماذا سيكون مصير الحرية والمساواة في أمة شعبها أمي؟!..