كان بديهيا أن تدخل شركة «آبل» بعد وفاة مؤسسها، ستيف جوبز، في مرحلة شك، وكان يحتمل أن تطول هذه المرحلة أكثر من اللازم إذا لم يكن الخلف في مستوى مبتكر علامة «التفاحة المقضومة». لكن المثير هو أن وفاة جوبز ساهمت في إماطة اللثام، أخيرا، عن ظروف العمل في المصانع عالية الدقة التي يتم فيها تصنيع أجهزة هذه الشركة. طرحت في المكتبات الأمريكية، بُعيد أيام على وفاة ستيف جوبز، مؤسس شركة «آبل»، كتب عديدة تتناول سيرة حياته، وتتلمس مكامن القوة في مساره المهني، وتحاول كشف ما خفي من نوادره ومواقفه الطريفة، وأحيانا الحرجة. ومن هذه الكتب، مؤلف للكاتب والتر إزاكسون تناول حياة جوبز بكثير من الجرأة وكشف عن معطيات كثيرة لم تنشر من قبل. وبالموازاة مع تنامي اهتمام أدب «ترجمة الأعلام» بجوبز، كانت الصحف العالمية تغوص في البحث عن أسرار نجاح علامة «التفاحة المقضومة» وتحاول تسليط الضوء على الظروف التي يشتغل فيها جنود الخفاء المساهمين في النجاحات التي حققتها هذه الشركة. وفي هذا السياق، أكدت صحيفة أمريكية أن جوبز كان، قيد حياته، يطرد بعض أجراء شركته بمجرد إقدام أحدهم على مناداته باسمه الشخصي، ستيف، بدل لقب الرئيس المدير العام. وكان قسم الموارد البشرية ب«آبل»، يبذل جهودا كبرى من أجل معالجة قضايا الطرد التعسفي قبل أن تصل إلى ردهات المحاكم، على حد تأكيدات روجي كاي، أحد مستشاري الشركة. الغموض ينجلي بعد وفاة جوبز، أصبحت الأضواء تسلط تدريجيا على مكامن الغموض في شركته «آبل». وتفجرت أولى فضائح الشركة في 25 يناير الماضي، حيث نشرت جريدة «نيويورك تايمز» تحقيقا اخترقت فيه المصانع الصينية التي تصنع فيها أجهزة «إيباد» و»آيفون». ورغم أن هذا التحقيق، لم يكن الأول الذي يتم من خلاله التنديد بسوء ظروف العمل في معامل الشركات التي تتعامل معها «آبل»، فإن التفاصيل الجديدة التي كشف عنها التحقيق كانت فوق طاقة الاحتمال. وصف التحقيق الصحافي الظروف التي يشتغل فيها الأجراء مصنعو الأجهزة التي تحمل علامة «التفاحة المقضومة» ب«الجهنمية»، إذ يشتغلون 12 ساعة في اليوم على مدى 6 أيام في الأسبوع. أثار التحقيق، أيضا، مأساة 137 عاملا الذين يقضون، في الوقت الراهن، عقوبة حبسية بعد إقدامهم على تنظيف شاشات «آيفون» بمادة كيماوية. شهدت تلك المصانع أيضا انفجارين بسبب تراكم رماد الألومنيوم بهذه المعامل، مما أودى بحياة أربعة أشخاص وألحق جروحا متفاوتة الخطورة بنحو 77 شخصا. المثير هو أن القائمين على هذه المصانع أكدوا في شهادات متطابقة توجيههم تحذيرات إلى شركة «آبل» من خطورة هذا الرماد، غير أن مسؤوليها لم يولوا أدنى اهتمام إلى تلك التحذيرات. فضائح غاص التحقيق سالف الذكر، أيضا، في خبابا انتحار نحو 20 عاملا كانوا يساهمون في صنع أجهزة «التفاحة المقضومة» في أقل من سنتين. معدل 10 حالات انتحار سنويا مرتفع للغاية ويطرح أكثر من علامة استفهام، وفق الخلاصات النهائية لذلك التحقيق. ليس هذا كل شيء، فقبل نشر تحقيق «نيويورك تايمز»، فجر برنامج إذاعي أمريكي، يحظى بنسب متابعة قوية، ويبث في وقت الذروة، ويدعى «الحياة الأمريكية» استطلاعا أعده الصحافي مايك ديساي عن واقع العمل في مصنع «فوكسكون شينزين» الكائن بمدينة «شينزين» الصينية. يشتغل في هذا المصنع وحده قرابة 340 ألف عامل. الفضيحة هي أن الصحافي الأمريكي قابل هناك عمالا قاصرين، بل أطفالا لا تتجاوز أعمار بعضهم 13 سنة. التقى هناك، أيضا، برجال ونساء هلكت أيديهم قبل أن يكملوا عامهم السادس والعشرين. ووقف على مأساة عمال يجبرون في كثير من الأحيان على العمل 34 ساعة متتالية. في أوقات خلت، كانت الشركة تبادر حين افتضاح أمر هذه الممارسات إلى بعث وفد خاص إلى الصين من أجل مراقبة ظروف العمل وإنزال عقوبات بأرباب تلك المصانع، قد تصل إلى درجة فسخ العقود وسحب الطلبيات منها. غير أنه لوحظ في السنوات الأخيرة شبه فتور في اهتمام ستيف جوبز نفسه بهذه القضية. أكثر من ذلك، لم يتردد قبل أشهر من وفاته في الإجابة بسخرية عن سؤال صحافي بخصوص الظروف «المهينة» التي تصنع فيها أجهزة «التفاحة المقضومة» في المصانع الصينية. الصحافي تحدث عما أسماه مأساة العمال مصنعي أجهزة «آبل»، في حين ارتأى مؤسس هذه الشركة الحديث عن مصانع نموذجية لا وجود لها في الصين. مصانع بها حدائق ومطاعم وقاعات سينما ومستشفيات ومسابح. جوبز ختم حديثه بالتأكيد على أن «هذه المرافق ترف في حياة عمال بسطاء». الواضح أن تحقيق «نيويورك تايمز» كان بمثابة النقطة التي أفاضت كأس «الغضب» على الشركة. لم يعد اليساريون وحدهم من يقف في صف انتقاد الشركة، إذ انضم إليهم أناس عاديون يشكلون قاعدة استهلاك منتوجات الشركة، وكثير منهم ليست لديهم أي انتماءات سياسية. نداء مقاطعة وفي هذا الإطار، أطلق الأمريكي مارك شيلدز نداء إلى الأمريكيين من أجل مقاطعة منتوجات الشركة إلى حين استجابتها للأصوات التي تناديها بضرورة فرض احترام حقوق العمال وتوفير الظروف المناسبة للعمل على الشركات التي «تناولها» صناعة الأجهزة الحاملة لعلامة «التفاحة المقضومة»، خصوصا في الصين. حظي النداء بدعم ربع مليون أمريكي في ساعات قليلة، وسرعان ما تحول إلى حملة واسعة تدعو «آبل» إلى «تغيير طريقة تفكيرها». ويقول تارين كوفمان، أحد الموقعين على هذا النداء: «نهدف إلى دفع شركة «آبل» إلى تحسين ظروف العمل في المعامل التي تصنع فيها أجهزتها خارج الولاياتالمتحدةالأمريكية، ولا سميا في الصين. وإذا كانت تراودهم فعلا رغبة في الاستجابة لهذا المطلب، فإن بإمكانهم القيام بذلك في المدة التي تفصلهم عن إطلاق جهاز «آيفون» الجديد». ثمة، أيضا، فئة من الغاضبين من «آبل» طالبوا «نيويورك تايمز» بإنجاز تحقيقات مماثلة في مصانع أخرى تصنع أجهزة «التفاحة المقضومة». فرغم أن «فوكسكون شينيزين» تعتبر كبرى الشركات التي تتعامل معها «آبل»، حيث تشغل مليونا و200 ألف شخص وتصنع نحو 40 في المائة من إجمالي الإنتاج العالمي من الأجهزة الإلكترونية، فإن تحقيقات مماثلة ستكشف عن ظروف عمل أكثر سوءا وعن حيف أكثر شدة ضد العمال في مصانع الشركات الأقل أهمية التي تتعامل معها «آبل». ويقلل تيم باجارين، أحد مستشاري «آبل»، من أهمية هذه الانتقادات، ويؤكد أن واقع العمل في المصانع الصينية التي تصنع أجهزة «آبل» لا يشغل بال الشركة. وقال «مشكل المصانع الصينية كان بإمكانه أن يشغل بال الشركة، لو أنها لم تقدم في البداية على التأسيس لرد فعل وقائي من أجل تجنب وقوع كوارث في هذه المصانع». بيد أن «آبل» ضغطت بقوة على الرئيس المدير العام للعملاق الصيني «فوكسكون شينزين» من أجل التأكيد أمام وسائل الإعلام على أن «آبل» ليست مسؤولة عن ترحيل صناعة الأجهزة الإلكترونية إلى الصين٫ ما بعد جوبز إذا كان تعامل الشركة مع هذه المطالب اتسم باللامبالاة في عهد مؤسسها ستيف جوبز، فإن حالة ترقب شديدة تسود حيال الطريقة التي سيتعامل بها المسؤولون الجدد في الشركة مع هذه الانتقادات. حالة الترقب تمتد أيضا لتشمل الشركات المتعاملة مع «آبل» بخصوص الأسلوب الجديد الذي سيدبر به المسؤولون الجدد ملف ترحيل صناعة «آيفون» و«إيباد» إلى المصانع الصينية. المراقبون الأكثر تفاؤلا يتوقعون أن يحدث «ربيع آبل» تغييرات جذرية في حياة عمال شركات المناولة التي تتعامل معها علامة «التفاحة المقضومة». إذ ينتظرون من المسؤولين الجدد بالشركة أن يبادروا إلى الانتقال بسلطة القرار داخل الشركة إلى مستوى أقل شخصنة بعد وفاة ستيف جوبز، الذي كان يقود الشركة بحزم، وكانت له الكلمة الفصل في كل أمور الشركة. وفي انتظار ذلك، يبدو أن قدر زبناء الشركة أن يستمتعوا بأجهزة «آبل» الفاخرة ويحاولوا أن ينسوا المعاناة الإنسانية التي يخفيها ظل «التفاحة المقضومة». عن «لونوفيل أوبسرفاتور»