عشنا البساطة وتغلغلنا فيها حتى كانت هي تلح أن تسكن منا كل جارحة وتملك علينا كل إحساس. كانت كسرة خبز حافية وجرعة ماء باردة تقنع لهفنا، وكان أي فراش يحتوي سباتنا العميق ويوحي لنا بأحلام وردية تشع حبورا ودعة. وحتى المأوى كنا لا نرى فيه المقاييس والسعة، إذ كان يتسع في مهجنا اتساعا لا تمليه الحدود والجدران. كان أي ثوب يغمرنا دفئا لا يعكسه قشيبه أو الأسمال منه، بقدر ما تعكسه حرارة أجسامنا الهنية. كانت التلقائية تطبع سلوكاتنا.. تلقائية عميقة في البراءة والطهر قد تصل إلى سذاجة جميلة ذكية. كان حنو الوالدين يبدد أية فاقة أو خلة، بل إننا كنا نرى في الترف رذيلة وفجورا. كانت علاقاتنا الإنسانية لا تقف عند الحق والواجب والسن والمستوى، بل كانت عطاء وسخاء من أي موقع، وتنبع مما جبلنا عليه من نكران للأنا واستصغار للذات. تربينا في ظل الله تعالى وعلى نهجه القويم. لم نكن نعيش في مدينة أفلاطون أو نغرف من دير للقديسات أو تحكمنا مدونة سلوك. وكان هذا حالنا وما جبلنا عليه؛ فحتى في محاكمنا كنت تلج الجلسة وكأنك في صلاة فجر أو وقت تشييع حبيب، فلا تسمع إلا همس القاضي وترنم المحامي الذي تخاله يعزف سيمفونية من كثرة الكلم المنمق الذي ينتقيه. كان ينطق «سيدي الرئيس» من عميق مهجته، وتنساب مفعمة بإيمانه بها، إذ يخاطب في نفس الآن المؤسسة والشخص. وتخال القاضي في مناجاة وهو ينادي المحامي ب«الأستاذ المحترم» أو «السيد النقيب المحترم». كان المحامي وكأنه في نسك يجاهد فرائصه ليمشي على أطراف أصابعه حتى لا يسمع حفيف خفيه، ولا يولي ظهره للقاضي إكبارا له وللموقف والمكان، إيمانا منه بأنه بذلك يرتقي بذاته وببذلته وبمهمته. كانت الخشية الأدبية هي بروتوكول التعامل، فالمحامي حديث العهد، من تلقائيته، يتنحى للأقدم منه ولو بسويعات في الطريق وفي الجلسة وفي أولوية التقاضي. كنا لا نحتاج إلى قواعد سلوك، بل كان سلوكنا هو الذي يؤسس للقواعد. كان روتين العمل وطبيعته يخرجاننا أطوارا عدة عن سمونا كقضاة ومحامين، وينحدر بنا إلى درجة الرجل العادي فنتدافع تدافعا أملته المشيئة الإلهية ضمانا للتوازن. ولكن لا نخرج في هذا التدافع عن تقاليدنا الجميلة وسلوكياتنا الراسخة القويمة. في الأمس القريب كنا نظن أن هذا الزمن قد ولى، وأنى نحن منه، حتى انبعث من دامس الخطوب وسنام المعاناة يوم الاثنين 12 مارس 2012، عندما التأمت حكمة الشيوخ بفورة الشباب، فتشبعت الحكمة بالحيوية وتشذب طموح الشباب من كل حماس متدفق، فجنينا حكمة ناضجة رصينة تواقة متحفزة ستبعث الزمن الجميل. فهيا إخوتي نحيي زمنا أضحينا نبكيه ونتوق إليه في لوعة الولهان وولع الوجدان. هيا بنا نقطف أمسا جفا حتى في ذكراه. هيا بنا نمشي على خطى قضاة ومحامين انصهروا حتى تجسموا عدلا. ألسنا نصنع الحكم سويا؟ ألسنا نروم العدل قويا؟ ألسنا نبغي التقى أبيا كان أو عصيا؟ هيا بنا نحيي تقليدنا الجميل ودأبنا الأصيل. هيا إخوتي نرشف مدام أنس بنيناه، ونلثم أديم مجد شيدناه. هيا نصل الدرب بالدرب حتى نمشي طريقا ألفناه وألفيناه. قاض من الدرجة الاستثنائية