أن يحتل خبر المجازر التي ترتكبها إسرائيل حاليا في قطاع غزة ذيل نشرات أخبار محطات التلفزة العربية، وبالأخص تلك المتبنية لثورات الربيع العربي من أجل استعادة الكرامة والحرية، فهذا أمر يبعث على الغيظ، ويدفع إلى التساؤل حول حقيقة ما يجري في منطقتنا وما يجري طبخه لشعوبنا وقضايانا في الغرف المغلقة، فمن المفترض أن الدم العربي واحد، وسفكه محرم على كل الجلادين، وعلى رأسهم الإسرائيليون. وما هو أكثر خطورة من هذا التعاطي العربي المخجل والمعيب مع عدوان يجري في وضح النهار، ذلك الموقف الأمريكي الذي عبرت عنه السيدة فيكتوريا نولاند، المتحدثة باسم وزارة الخارجية، عندما أعربت عن قلق حكومتها الشديد إزاء العنف في قطاع غزة، وأدانت ب»أشد» التعابير قيام «إرهابيين» بإطلاق الصواريخ على جنوب إسرائيل. عشرون إنسانا أعزل، بينهم أطفال، مزقت أجسادهم الطاهرة الطائرات الإسرائيلية، محاصرون في قطاع بائس، حيث لا كهرباء ولا ماء، لا يستحقون كلمة تعاطف واحدة، أو إدانة، ولو خفيفة، لجزاريهم من قبل السيدة الأمريكية نولاند، وحكومتها التي تدعي أنها تقود العالم الحر وتتعاطف بشدة مع ثورات الربيع العربي وضحايا الديكتاتوريين العرب الفاسدين. السيدة نولاند تبدي حرصا وقلقا غير مسبوقين على الإسرائيليين في «جنوب إسرائيل»، وتدين «الإرهابيين» الفلسطينيين الذين يطلقون صواريخ لم تقتل أيا منهم، بينما لا ترى دماء الأطفال وأجسادهم الممزقة بقذائف طائرات بلادها الحديثة التي قدمتها هدية إلى الإسرائيليين للحفاظ على أمنهم «المقدس». ربما لا يثير سقوط الشهداء الفلسطينيين اهتمام وفضول المسؤولين الأمريكيين، فهؤلاء يتعرضون للمجازر الإسرائيلية منذ سبعين عاما على الأقل، ولكن نستغرب أن يكون الحال كذلك لوزراء الخارجية العرب، فإذا كان يعود ذلك إلى تواضع عدد قتلى القطاع هذه المرة، بالنظر إلى أرقام نظرائهم في حمص وادلب، مثلا، على أيدي النظام الديكتاتوري السوري، فربما يفيد تذكير هؤلاء الوزراء العرب بأن سقوط عشرين شهيدا في قطاع لا يزيد عدد سكانه على مليون ونصف مليون نسمة، يوازي سقوط 350 شهيدا على الأقل في سورية التي يبلغ تعداد سكانها 25 مليون نسمة، وكل الشهداء أنى كانت هويتهم يتساوون، في نظرنا، من حيث الأهمية والمكانة. نحن لا نبرر هنا أو نقلل من شأن مجازر النظام السوري أو الليبي أو المصري أو التونسي، فقد أدنّاها وندينها، وكل أعمال القتل التي ارتكبتها الأنظمة الديكتاتورية العربية في حق شعوبها، ولكننا نتمنى على الحكومتين القطرية والسعودية، اللتين تتزعمان حملة في الوقت الراهن لتسليح الجيش السوري الوطني الحر للتصدي للنظام الديكتاتوري وحلوله الأمنية الدموية وحماية أبناء الشعب السوري الأحرار من بطشه، أن تفعلا الشيء نفسه لتسليح أبناء القطاع، والضفة الغربية مستقبلا، من أجل الدفاع عن أنفسهم في مواجهة هذه الغطرسة الدموية الإسرائيلية، حتى لا ينظر إليهما هؤلاء بأنهما تتعاطيان بطريقة انتقائية، تمييزية للضحايا. في الإطار نفسه، نقول إننا سمعنا وشاهدنا بأم أعيننا الحماس العربي التركي الأمريكي الغربي لتشكيل تحالفات، وعقد مؤتمرات لأصدقاء سورية، وقبلها لأصدقاء ليبيا، وهذا أمر جيد لا نعترض عليه، لأن الشعبين السوري والليبي يستحقان كل مساعدة ممكنة في مواجهة أعمال القتل، ولكن نسأل، وبكل سذاجة، عن أسباب عدم تشكيل تحالف لأصدقاء فلسطين، لحماية أرواح مواطنيها من المجازر الإسرائيلية، نسأل، وبالسذاجة نفسها عن «حمية» الرئيس الفرنسي نيكولاي ساركوزي وغيرته على الحريات وحقوق الإنسان، وهما اللتان تجسدتا في أروع صورهما بإرسال الطائرات الحربية الفرنسية لضرب دبابات العقيد معمر القذافي التي كانت في طريقها لارتكاب مجزرة في مدينة بنغازي، أين هذه الحمية وهذه الغيرة تجاه ما يجري في غزة، وكم من شهيد سيسقط حتى تتحرك مرة أخرى، ألف، ألفان، مليون، أفيدونا أفادكم الله؟ ثم أين صديقه الحميم برنارد هنري ليفي، الفيلسوف الفرنسي رقيق القلب، صديق بنيامين نتنياهو والمدافع الأبرز عن ثورات الربيع العربي، في ليبيا خاصة، الذي يتباهى في كتابه، الذي أصدره مؤخرا وترجم إلى عدة لغات، بكونه رفع سماعة الهاتف واتصل بقصر الإليزيه وأقنع الرئيس الفرنسي بالتدخل عسكريا في ليبيا، وكان له ما أراد. فلماذا لا يوسع ليفي دائرته الإنسانية هذه لتشمل أبناء القطاع برعايته؟.. الإجابة جاءت في كتابه المذكور عندما قال إنه فعل كل ما فعله في ليبيا من أجل خدمة إسرائيل ومصالح الشعب اليهودي. في برنامج «نيوز نايت» البريطاني الشهير، سألت المستر ليفي عن عدم تدخله ورئيسه لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، الذي استخدمت فيه القوات المهاجمة قنابل الفوسفور الأبيض لحرق الأطفال والنساء وما مجموعه 1400 إنسان، فقال ما معناه إن قطاع غزة يحكم من قبل حركة حماس الإرهابية التي تطلق الصواريخ على إسرائيل، أي أن هذا الشعب، مثلما فهمت، يستحق الحرق والقتل. نفهم أن يتردد وزراء الخارجية العرب، أو حلفاؤهم الأمريكان في إدانة هذه المجازر الإسرائيلية، لو أن فصائل المقاومة هي التي بدأت أعمال العنف، وقتلت إسرائيليين، ولكن ما حدث هو عكس ذلك تماما، فالصواريخ الإسرائيلية هي التي بادرت إلى اغتيال الشيخ الشهيد زهير القيسي، الأمين العام للجان المقاومة الشعبية، وبعض مساعديه، ليكون هو الأمين العام الثالث الذي يتعرض للاغتيال بعد جمال أبو سمهدانة وكمال النيرب؛ فالأمريكان لا يدينون الجلاد وإنما الضحية كعادتهم دائما، عندما يكون الأول إسرائيليا والثاني عربيا مسلما فلسطينيا. الدكتور نبيل العربي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، الذي توسمنا فيه خيرا عندما تولى وزارة الخارجية المصرية، وبعدها منصبه الحالي، فاجأنا يوم السبت الماضي عندما أنهى مؤتمره الصحافي الذي عقده في ختام اجتماع وزراء الخارجية العرب، مع نظيرهم الروسي سيرغي لافروف، فاجأنا بإجابة مقتضبة عن سؤال لصحافي عربي فضولي حول موقف جامعته تجاه الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة، عندما قال: «إن الاجتماع لم يكن مخصصا لأحداث غزة، وإن هناك العديد من القرارات الدولية بشأن هذه الاعتداءات لم تلتزم بها إسرائيل». وأنهى مؤتمره الصحافي فورا تجنبا لأي أسئلة محرجة أخرى في السياق نفسه. شهداء قطاع غزة «لا بواكي لهم» في الجامعة العربية أو واشنطن أو باريس، لأن الجزار إسرائيلي، فذبح هؤلاء في هذه الحالة «حلال»، حتى لو كانوا عربا وسنّة وشوافع، ولن يذهب وزراء الخارجية العرب إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بحمايتهم، حاضرا أو مستقبلا، لأن «الفيتو» الأمريكي «الصديق» في انتظارهم.