هناك أشياء كثيرة تتحرك اليوم في العالم، وحركتها تنبئ بأن مشهدا جديدا يتشكل في الأفق، وأن من يحسن قراءة التحولات ويتقن فن التموقع ويمتلك أدوات الفعل، فإنه يحجز لنفسه موقعا متقدما في المسرح الدولي القادم. هناك اليوم أزمة مالية عميقة تضرب أكبر حصن للرأسمالية في العالم، لم تشهد أمريكا أزمة مثلها على مدار 79 سنة الفاصلة ما بين 1929 و2008... الأزمة لن تقضي على النظام الرأسمالي لكنها ستقضي على ريادة أمريكا داخل الاقتصاد العالمي، تماما كما فعلت الحرب العراقية، لم تقض على الجيش الأمريكي لكنها أفقدت البيت الأبيض زمام قيادة العالم والنظام الدولي، الذي صار يبتعد كل يوم عن نظام القطب الواحد ويقترب من نظام تعدد الأقطاب. من كان يتخيل أن تعطي أوربا في يوم من الأيام دروسا مالية لأمريكا؟ ومن كان يتصور أن الأمين العام للأمم المتحدة يمكن أن يدعو إلى قمة عالمية لمناقشة الأزمة المالية وإعادة النظر في النظام المالي العالمي. هذه الدعوة تعني وضع قيود ومتاريس أمام الشركات الأمريكية العملاقة التي ركبت فوق ظهر العولمة منذ انهيار جدار برلين، وراحت تهدم قلاع الأسواق المحمية، وتغزو الأنظمة الاقتصادية على طول الكرة الأرضية. الاتحاد الأوربي، ورغم تأثره بالأزمة الاقتصادية العالمية، فإنه يحاول أن يغير قوانين اللعب، مادامت المباراة متوقفة، في محاولة لإعادة رسم خطوط توازن جديدة تجاه أمريكا التي سيطرت على أوروبا مرتين، الأولى بعد الحرب العالمية والثانية حيث شاركت في الحرب متأخرة واقتسمت النصر مع الحلفاء الذين جرت الحرب في دارهم وأكلت أبناءهم وأحرقت مقدراتهم. ثم لما انهار القطب الشرقي وذابت ثلوج الحرب الباردة، تقدمت وفرضت هيمنتها على العالم. اليوم أوربا تعيد التموقع في خارطة السياسة والاقتصاد العالميين، مستغلة جرحين نازفين في رأس الأسد الأمريكي: الأزمة المالية وآثار حرب العراق. روسيا فعلت نفس الشيء، بمجرد ما أحست بأن القبضة الأمريكية على العالم قد ضعفت.. تقدمت لإعادة رسم مجال جيوستراتيجي جديد لحركتها، وكانت الرسالة واضحة عندما ضربت روسيا جورجيا التي تعتبر نفسها محمية أمريكية وغربية في حاضرة الدب الروسي، ولم تستطع أمريكا الرد على الاجتياح الروسي. الصين لها سياسة أخرى، فهي ماضية في منافسة أمريكا اقتصاديا وتجنب مواجهتها سياسيا. لقد كان لافتا للنظر الطريقة التي نظمت بها دولة ماو الألعاب الأولمبية الأخيرة.. طريقة أبهرت العالم وأعطت إشارة قوية بأن الصين دولة كبيرة في طريقها اليوم إلى أن تصير قوة عظمى. أما النزعات اليسارية القومية المنتشرة اليوم في أمريكا اللاتينية، فإنها تتغذى على مناهضة السياسة الأمريكية أكثر مما تؤشر على عودة الإيديولوجيا الماركسية إلى الحكم. إيران قصة أخرى، فقد استطاع ساسة الجمهورية الإسلامية أن يستفيدوا إلى أكبر مدى من جهل أمريكا بالمنطقة، ففي ظرف سنتين أسقطت واشنطن نظامين كانا يزعجان طهران إلى أبعد حد: نظام طالبان ونظام صدام حسين. ولأن قراءة الإدارة المحافظة كانت ناقصة، فإن العراق لم يُحتل فقط من قبل الجيوش الأمريكية والبريطانية، بل وكذلك من قبل المخابرات الإيرانية والأحزاب الموالية لها. فأول بنك فُتح في جنوب العراق كان بنكا إيرانيا وليس أمريكيا ولا بريطانيا ولا سويسريا... وحدهم العرب غائبون عن الساحة الدولية، لأنهم ليسوا لاعبين بل جمهور يدفع ثمن تذكرة اللعب ثم يظل في الصفوف الأخيرة يتفرج على مباريات ترسم شكل العالم وخارطة مصالحه.