الشعر والجمال صنوان لا يمكن أن نفرق بينهما، وحينما يتجرأ أحدنا ويفصل بينهما، يكون قد نزع الروح من أحدهما. إن الحياة ثقيلة ومملة بدون الشعر وقاسية بل بغيضة إذا غاب فيها الجمال. ومن المؤكد أنه لا أحد من البشر يسعى إلى أن يعيش في ظل البرودة والبشاعة. من تم لن يكون من المنطقي إنْ اعتمدنا ميزان العقل، أن نتصور أن عربة الحياة يمكن أن تسير بدون شعر وجمال. ومَن أزاحهما من طريقه يكون كمن فقأ عينيه، وعلى قدر ما نسيهما سيعيش أعمى وعلى قلبه قفل لن يسمح له أن يرى ما في الوجود من روائع وآفاق عظيمة للمتعة والتحليق.. هذا ما يمكن أن يستنتجه أي كان في عالم فقَدَ صوابه وسار بدون هادٍ نحو مصير مجهول وسط ألغام موضوعة على امتداد الطريق، فقليلون هم الذين يدركون أن رسم تلك اللوحة وتعليقها في قلب ذاك البيت في عزلة عن الأسلاك الكهربائية وشتاء الصور المقذوفة من الأعلى له معنى. قال لتلك اللوحة أنت هنا كامرأة جميلة شاخت بدون مقدمات وإنذارات. سمعت اللوحة المعزولة هناك كما يسمع كل بار لأمه، وسارت تكبر في صمت بعيدا عن ضجيج المدن. في تلك اللوحة، كان الحيوان والبشر منتشرين بحثا عن أرزاق من عرق جبينهم. ففي الصباح، يحسم أمر الحياة والموت والأرزاق. الشمس، قبل أن تطل على الدواوير المصفوفة في السهل المنبسط، تسبقها حمرة أخاذة تستهوي القلوب قبل العيون. لكن هذا الجمال الفاتن دائما يؤجل في انتظار وصول حظوظ طائشة. تلك الشمس ليست سوى ناقوس يدق، منبها إلى أن العمل سيبدأ ولن ينتهي، هناك دائما أشغال تقف على الأبواب، كما الأحلام. في اللوحة المعلقة، هناك تجمع بشري، وهو منذ مئات السنين، لم يكن سوى رجل فرد جاء من الشرق يحمل عصا وفي قلبه قرآن يظلل مجاري الدم وتوكل لا يناقش.. هذا الرجل هو من زرع بذرة في تلك الأرض، تفرعت بعد التوغل في الزمان، حتى صارت شجرة بل أشجارا. في ذلك اليوم، وصل امحمد بنقاسم إلى سهول دكالة، بعد أن اجتاز نهر الخير، أم الربيع، سباحة. وقبل أن تجف ثيابه، أرسل النظر وكأنه يرسل نفسه في تلك الأرض المستوية الممتدة بشكل يجلب على الناظر إليها الحيرة والخوف. بدا كل ما رأت عين ابن قاسم مفرحا ومغريا للنزول، فهدأ كل عضو من أعضائه واطمأنت الروح إلى نسائم الصباح وقال: هنا المكوث!.. امتلكه إحساس بالراحة والنشوة. هذه الأرض الممتدة مد البصر أغرت الرجل وشدت دواخله فوجد نفسه قويا، مثل عمود من الحديد.. خيرات كثيرة تراءت له وسلالة كثيرة تأتي نقطة، نقطة، كما المطر. الأقدام ثبتت وانشدت إلى سخونة التراب. لم يكن يعلم أن الرحلة ستتوقف هنا ولم يكن يعلم أن رحلة الحياة والموت ستبدأ هنا. في ذلك اليوم القديم الحار، لبّى ابن قاسم الهاتف وودع تلك الأشجار، التي لا تثمر والشمس التي لا تعاشر وانطلق على هدي بوصلة شبيهة بتلك التي يملكها طائر. وأخيرا، وجد نفسه بين قامات أشجار تلامس السماء وصبار يقف وقفة العسكر، فنزل وقال: هنا المقام، لا بد أن تكون لكل رحلة من نهاية، وهنا النهاية.. الآن، الصورة تكبر في صمت، بلا إذن ولا رقابة ولا عناية، حتى مثل النبات الوحشي، وتقاوم الصمت. والسلالة تتدفق مثل شلال.. إن الذكرى لا تحضر أمام عينيه سوى في صورة امرأة جميلة شاخت.