لا يواجه المرء أزمة أخلاقية واحدة في الشأن السوري، بل خمس أزمات سويا: أولا، لا يمكن للإنسان أن يؤيد صف دبابات يسير تحت شرفات الخلق، يسمى نفسه حكما وحكومة، وهو يطلق النار على الأحياء المدنية ويقتل الأطفال والنساء بالآلاف ويعذب المعتقلين السياسيين، ولا عذر له، فإن زعم أنه يواجه تمردا مسلحا اليوم فإنه لم يكن يواجه تمردا مسلحا حين حبس الأطفال في درعا. وهو، إلى ذلك، فيه من عِبَر الزمان ما فيه، وحدِّث عن التوريث والحزب الواحد والتمييز الطائفي والبنية الأمنية ولا حرج، أما إعلامه فتكفي نصف ساعة من متابعته لدفعك إلى الجنون. وقد قلت من قبل إن كان تحرير فلسطين يقتضي تعذيب أطفال سوريا، فأبقوها محتلة خير لأطفالكم وأطفالها. ثانيا، لا يمكن للإنسان أن يؤيد الطرح السياسي للمجلس الوطني السوري المعارض، لأنه وضع نفسه في حلف واضح مع الولاياتالمتحدة، ورئيس المجلس وعد الأمريكيين علنا، وأكثر من مرة، بخنق المقاومة اللبنانية وفك الحلف مع إيران وقَصَر علاقته على منظمة التحرير الفلسطينية دون حركة حماس، والمتحدثة باسم المجلس نظمت لقاءات بين العرب والإسرائيليين في فرنسا وغيرها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وهيئات التنسيق الميدانية التابعة للمجلس الوطني نظمت جُمَعا مطالبة بالتدخل الدولي وحظر الطيران، أي أن تطير طائرات حربية أمريكية أو فرنسية في الأجواء السورية لقصف البلاد، وكأني أرى وجه أحمد الجلبي في كل عضو من أعضاء هذا المجلس. ثالثا، لا يمكن للإنسان أن يدعو الناس إلى التظاهر مع معاداة كل من النظام والمجلس الوطني السوري، لأن في ذلك تضليلا لهم، فنحن نعلم بأن الخيار لا يعدو هذين، وأن المجلس الوطني السوري هو الذي يحظى وسيحظى بالاعتراف الدولي دون غيره، فإن دعونا الناس إلى التظاهر فنحن ندعمه، شئنا أم أبينا. هذه واحدة، والثانية هي أننا لا نقدر أن ندعو الناس إلى الموت في حرب نعلم بأن احتمال انتصارهم فيها ضئيل، وأنهم إن انتصروا فسيصلون لا إلى الحرية بل على الأرجح إلى حرب أهلية أو إلى تسليم الأمة كلها إلى الأمريكان أو كلا الأمرين معا، وسأشرح هذا بالتفصيل أدناه. رابعا، لا يستطيع الإنسان أن يصمت، لأنه حين يفعل، بينما قد تكلم عن كل الثورات العربية الأخرى، سيترك للمغرضين تفسير موقفه كما يشتهون، وأنا أقول عن تجربة إن أخلاق الكثيرين في أوساط المجلس الوطني السوري ليست أحسن إطلاقا من أخلاق أي جهاز أمن عربي، وقد وُضع اسمي وأسماء كتاب عرب ومصريين آخرين على بيانات مؤيدة للمجلس الوطني دون أن نعلم بهدف توريطنا، فإن سكتنا أصبحنا داعمين لقوة سياسية ندينها تماما، وإن تكلمنا شوهت مواقفنا وقيل إننا نساند القمع ونحن نعادي القمع والقامعين عداء صريحا أيضا. خامسا، حتى كتابة هذه السطور تشكل أزمة أخلاقية لأنك حين تكتبها تفت في عضد الناس، وتخبر الغاضبين لدماء أبنائهم بأن قيادتهم السياسية ستخيب أملهم، وهذا مؤلم جدا لي كما هو مؤلم لهم، ولكنه مبلغ علمي واجتهادي. فإن كان تأييد الحكومة ممتنعا، وتأييد المعارضة ممتنعا، وتأييد المتظاهرين دون المعارضة ممتنعا، والصمت ممتنعا، والكلام مؤلما، فأهون الشرور الخمسة هو الكلام، لبراءة الذمة، والتحذير من الخطر الذي أراه. أقول: إن مسعى المجلس الوطني آيل للفشل حتى وإن نجح. فإذا بقي النظام فقد ذهب دم الناس، وإن سقط النظام فإن دماء أكثر ستهدر في سوريا والعراق ولبنان وفلسطين، وإليكم الدليل: إن المظاهرات السورية انطلقت يوم انطلقت اعتراضا على السياسة الداخلية السورية لا على السياسة الخارجية السورية، وهي سياسة دعمت المقاومة وحمت كلا من لبنان وفلسطين والعراق من أن تأكلها الولاياتالمتحدةالأمريكية أكلا. إلا أن المعارضة في سعيها إلى الحصول على الدعم الدولي راحت تعد الأمريكيين والفرنسيين بتغيير السياسية الخارجية السورية بدلا من أن تعمل على بناء الإجماع الوطني داخل سوريا، وفي دمشق وحلب تحديدا. إن فك شبكة الأحلاف السورية يهدد الآلاف من اللبنانيين الجنوبيين بالموت في حرب انتقامية ستشنها إسرائيل حتما، عاجلا أو آجلا. وتفكيك المقاومة اللبنانية يعني بالضرورة قصم ظهر المقاومة الفلسطينية التي ستفقد ظهيرها الشمالي، وسندها الإقليمي، فالمجلس الأعلى للقوات المسلحة المصرية الحاكم في مصر، كما كثير من القوى السياسية فيها، يبدون تمسكهم باتفاقية السلام مع إسرائيل، مما يلقى بظلال من الشك حول مدى السند الذي يمكنهم أن يوفروه للمقاومة الفلسطينية. وعليه، فإن هذه المقاومة ستظل معتمدة على سندها الإيراني والسوري حتى تقرر مصر مصيرها وموقفها من التحالفات الإقليمية. لذلك فإن برنامج المجلس الوطني السوري يهدد آلاف الفلسطينيين في غزة بالموت أيضا في أية حرب إسرائيلية عليهم، ويدع القضية الفلسطينية في أيدي رجال كفياض وعباس. أما الإيرانيون فإنهم إذا فقدوا اتصالهم بالجنوب اللبناني فقدوا منصة لمحاربة إسرائيل برا إذا هاجمتهم جوا. ومهاجمة إيران لإسرائيل تحميها بطريقتين، الأولى مباشرة، حيث تستطيع إيران وحلفاؤها أن يصيبوا أي هدف في إسرائيل عن قرب، والثانية غير مباشرة، حيث يؤدي إجبار إسرائيل على الدخول في الحرب ضد إيران إلى تفكك أي تحالف عربي أمريكي ضدها أمام ضغط الشارع. لذلك فإن حرمان إيران من اتصالها الجغرافي بجنوب لبنان عبر العراق وسوريا يعرضها لخطر داهم هي الأخرى. لذلك، فإن حلفاء دمشق لن يكفوا عن دعمها. إن القوم شأنهم شأن السوريين، يدافعون عن حياتهم وحياة أولادهم، وهم يعلمون بأن بديل النظام هو المجلس الوطني، ولم يأل السيد برهان غليون جهدا في إخافتهم بإعلانه عن نواياه. أما روسيا، فإن المجلس الوطني يهددها بفقدان الحلف الوحيد الموالي لها خلف هلال من القواعد الأمريكية والدول الحليفة لأمريكا يمتد من جمهوريات البلطيق إلى حدود الصين، فلاتفيا ولثوانيا وإستونيا وبولندا والمجر والتشيك وسلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا ورومانيا وبلغاريا واليونان وتركيا أعضاء في حلف الناتو، ثم من تركيا شرقا إلى أذربيجان وأزبكستان وطاجيكستان وقرغيستان على حدود الصين حلفاء للولايات المتحدة، بالإضافة إلى كل من أفغانستان وباكستان. إن إيران والعراق وسوريا ولبنان هي الكتلة الوحيدة الواقعة إلى الجنوب والجنوب الغربي من هذا القوس الممتد من الشمال الغربي لروسيا إلى جنوبها الشرقي، وهو منفذها الوحيد على المياه الدافئة للبحر المتوسط بعد خسرانها ليوغوسلافيا. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقبل على انتخابات جعل الأمن الاستراتيجي فيها أحد أهم مرتكزات دعايته، وهو لا يعيش في أزمة اقتصادية، بينما الأمريكيون يعيشون أسوأ أزماتهم المالية، وأوباما سيدخل الانتخابات ودعايته قائمة على إنهاء الحروب لا بدئها. فرغبة موسكو وقدرتها على دعم دمشق أكبر من رغبة واشنطن وقدرتها على دعم الجيش السوري الحر. ونقل الثورة إلى حرب أهلية يعني أن الطرف الأكثر تزودا بالسلاح سينتصر فيها، وأن العدد لم يعد يهم، ففي الثورات الشعبية كمصر وتونس، يغلب العدد السلاح، وفي الحروب الأهلية ينتصر من يكثر سلاحه لا عدده. وروسياوإيران يدافعان عن نفسيهما ضد انتشار نفوذ الولاياتالمتحدة، وموقفهما جيواستراتيجى محض، ولا محل هنا لأي كلام طائفي لا معنى له، المسألة استراتيجية محضة، وتوازن قوى مائل بشدة لغير صالح المعارضة السورية المسلحة. وإن كانت المملكة العربية السعودية تدعم الجيش السوري الحر، فإن لدعمها حدودا، لأنها تخاف أن يصل بعض الدعم إلى منظمات إسلامية سنية لا تحب السعودية ولا تحبها السعودية ولا تسمح لها أمريكا بدعمها، كالقاعدة مثلا، ثم إن الرياض لن تستطيع أن تدعم الجيش السوري الحر بالطائرات والدبابات؛ أما إيرانوروسيا فدعمهما لحلفائهما غير محدود ولا مقيد بهذه القيود. وكما فشل المجلس الوطني السوري في تحييد حلفاء دمشق وطمأنتهم وأدت مواقفه إلى زيادة تمسكهم بتحالفهم معها، فإنه فشل أيضا في طمأنة الأقليات السورية، وعلى رأسها العلويون. لا يوجد ما يدعونا إلى الظن بأن العلويين في سوريا، إذا سقط النظام، سيتصرفون بشكل مختلف عن السنة في العراق بعد صدام. ولا تملك المعارضة السورية أية ضمانات لمنع اقتتال كهذا. ثم إن حربا أهلية في سوريا ستنعكس فورا على كل من العراق ولبنان، وندخل في حرب أهلية عامة بين كل سنة المشرق العربي وكل شيعته. وهي ستفرق حتما بين إيران وتركيا، وبدلا من تكوّن حلف إيراني عراقي سوري لبناني فلسطيني لا تعارضه تركيا، وربما تنضم إليه مصر، يحاصر مصلحتي أمريكا إسرائيل والنفط، سيتكون في المشرق حلف سني من تركيا والسعودية والأردن وربما مصر، وحلف شيعي في إيران والعراق، يتقاتلان على سوريا ولبنان ويتركان لإسرائيل أن تفعل ما تشاء بالفلسطينيين وسائر الأمة. لا يوجد في أي من هذه السيناريوهات حل ديمقراطي لسوريا، اللهم بالتفاوض مع القوى الإقليمية، وطمأنه حلفاء دمشق إلى أن ما يجري في البلاد ليس موجها ضدهم. وكثيرا ما سئلت، لماذا لم تكتب يا سوريا هانت وبانت، وكنت أسكت وأقول لنفسي متألما، لأنها في سوريا لا هانت ولا بانت.