«اللباس البرتقالي والسلاسل الحديدية واللاصق الأسود هي تلك الصور التي شاهدناها ولا نزال نشاهدها للمعتقلين الذين أطلقت عليهم الولاياتالأمريكية لقب «الإرهابيين». صور تثبت لنا حجم الضبابية الذي لا يكاد يزول عن ادعاءات الولاياتالمتحدة المزيفة والحقائق، التي طالما رآها البعض في أمريكا باعتبارها راعية حقوق الإنسان والعدالة والمساواة والمعتقدات الدينية. حقائق يكشف عنها إريك سار (رقيب في الجيش الأمريكي وأحد المحققين في غوانتانامو بعد فترة ستة شهور قضاها مع المعتقلين) والصحفية فيفكا نوفاك (مراسلة صحيفة «واشنطن بوست» وعضو الجمعية الأمريكية لحقوق الإنسان والحريات المدنية). حقائق تبين لنا مقدار الغطرسة الأمريكية في جحيم غوانتانامو، الذي بدأت السلطات الأمريكية باستغلاله مع بداية سنة 2002 بعد احتجاز من تشتبه في كونهم إرهابيين ينتمون إلى تنظيم القاعدة. حقائق تكشف لنا جوانب مظلمة وممارسات وحشية وأساليب منافية للمواثيق والأعراف الدولية تجاه المعتقلين. في صباح اليوم التالي، وتحديدا في الساعة السابعة صباحا، بعد عدة دقائق من وصولي إلى المكتب، استلمت طلبا لمترجم في العيادة الطبية. أخذت معي مو الذي كان عائدا لتوه من مهمة ترجمة أخرى، لأنني لم أكن أشعر بالثقة التامة للترجمة في مواقف صحية طارئة. كان الرجل المسن نفسه الذي كان في اليوم السابق يتلوى على طاولة الفحص ويشتكي من آلام في الصدر بصوت عال (اليمني الذي يعاني من آلام في الصدر)، حاولت أن أترجم له ما تقوله مساعدة الطبيب من أن ما يشكو منه ليس سوى أوهام لا محل لها من الصحة، خاصة أنهم فحصوه جيدا ولم يعثروا على شيء، لكن الرجل بدأ يصرخ بالعربية ويقول بأنه يتعرض لأزمة قلبية، فقالت مساعدة الطبيب وقد نفد صبرها: «قل له إنه لا يتعرض لأزمة قلبية وإنه سيكون بخير». سألها مو إذا كان الطبيب الذي فحصه بالأمس موجودا في المركز، فصاحت بصوت عال: لا، إنه ليس هنا، ولم نعد بحاجة إلى مساعدتكم سيكون المريض بخير دونكم». وصفة طبية خاطئة حاول مو أن يشرح لها أن الطبيب كان يريد إجراء فحوصات وتخطيطا للقلب لهذا المريض عندما تعود آلام الصدر إليه، لكنها أصرت على أن «المريض سيكون بخير». وفيما كنا نهم بالذهاب، دخل الطبيب الذي كان موجودا في اليوم السابق ورأى الرجل على الطاولة وسأل مباشرة إذا ما تم إجراء تخطيط للقلب له كما كان قد طلب في ملاحظاته، وبدا أن مساعدة الطبيب كانت قد خالفت التعليمات بالفعل. في تلك الأثناء، كانت العلاقات المتوترة داخل مجموعة المترجمين لا تزال سائدة، كان مو وأحمد اللذان يعيشان في نفس المنزل نادرا ما يتحدثان إلى بعضهما البعض. وفي إحدى المرات ذهبت مع بعض زملائي في المجموعة في رحلة بحرية، فيما ذهب مارك مع أحد العناصر الجديدة في المجموعة، واسمه جيك، لحجز قارب ومعدات صيد وغطس. رأيت امرأة كنت أعرفها أثناء فترة التدريب على تعلم اللغة العربية تقترب مني، لم أكن أعرف أن ليزا كانت في غيتمو وأنها كانت تعمل في فريق التحقيق. وبعد أن تبادلنا أطراف الحديث حول معارفنا المشتركة، سألتني عما أفعله وما رأيي في المكان، قلت لها إنني أصبت بخيبة أمل لعملي في مجموعة عمليات المعتقلين المشتركة، وإن فريقي كان يعاني من مشاكل جدية بين أعضائه، وأضفت: «لا أستطيع أن أتذمر من ساعات العمل، لكنني بالتأكيد لا أعتقد أنني أنقذ العالم». كان يبدو لي من خلال أسئلتها عن فريقي بأنها سمعت شيئا عن تلك المشاكل التي تحدث داخل مجموعتنا. كان قد مضى حوالي عام على وجود ليزا في المعسكر وكانت لديها معرفة جيدة بما كان يدور فيه. كانت قد عملت في الزنزانات عندما وصلت في البداية، لكنها انتقلت بعد ذلك إلى فريق التحقيق، وحاليا تقوم بالإشراف على أكثر من ثلاثين مترجما مدنيا تم تعيينهم في فريق التحقيق، وكانت تشارك في عمليات التحقيق نفسها. قالت بكل وضوح: «إريك إنني أحب عملي كثيرا والآن أبحث عن شخص ليحل مكاني في العمل، لأنني سأغادر هذا المكان خلال الأسابيع القليلة القادمة، لأن مهمتي انتهت»، تمنيت حينها أن لا تلاحظ لعابي وهو يسيل لذكر ذلك الأمر. التحقيق.. مهمتي الجديدة كان ذلك العمل سيخرجني من بين الزنزانات إلى عمل استخباراتي أخيراً وكان سيبعدني عن فريقي المليء بالمشاكل، فأكثر ما أحبه في العمل الاستخباراتي أنه يعطيك الفرصة لإلقاء نظرة على الصورة الكبيرة لما يحصل حولك، وذلك ما كان قد حفزني للحضور إلى غيتمو أساسا، قلت لليزا إنني أرغب في أن تأخذ رغبتي في العمل مكانها بعين الاعتبار والدراسة. هنا أخذتني إلى جانب قارب متوقف على الشاطئ وعرفتني على رئيستها في العمل، الرائد «بيث ريتشاردز» المسؤولة عن جميع المترجمين العسكريين والمدنيين المعينين في فريق التحقيق. قلت للرائد ريتشاردز إنني أرغب في الحصول على مكان ليزا في العمل، فقالت لي إنها سوف تتصل بي قريبا. كنت أعرف أن زملائي في الفريق الذين كانت لهم خلفية في العمل الاستخباراتي كانوا مستعدين لعمل أي شيء للحصول على مثل هذه الفرصة، بما في ذلك مارك، لكنهم لم يكونوا يعرفون عنها شيئاً بعد. كنت مثل الطفل الذي ينتظر عيد ميلاده، كنت أنتظر اللحظات وأعد كل ثانية تمر في انتظار الجواب الشافي. كنت أرغب في الحصول على ذلك العمل بقوة وبأي وسيلة كانت، لكن ليزا سرعان ما اتصلت بي بمكتبي بعد غداء اليوم الموالي لتخبرني بالذهاب لرؤية صيرورة الأمور في مكان العمل الجديد، مضيفة أنها تحدثت مع رئيسها الرائد ريتشاردز، والتي تحدثت بدورها مع الكابتن منصور (رئيسي في العمل) ووعدها بأن يكون هذا العمل الجديد من نصيبي في حالة أردت ذلك. ذهبت إلى موقع عملي الجديد (موقع ليزا القديم) وأنا أقول يا لها من راحة كبيرة حصلت عليها، فقد كان هذا العمل في فريق التحقيق سيجعلني أفهم هذا المكان جيدا وأكثر مما أنا عليه الآن ومما كنت عليه في السابق. كان عمل ليزا يشمل رئاسة مكتب يتولى التنسيق وتطبيق بعض متطلبات جمع المعلومات في المعسكر. كانت ليز تشرف على مجموعة تضم 30-50 مترجما مدنيا كانوا يعملون في مكتبها بشكل دوري، فأثناء تلك الجولة عرفت حجم المسؤولية التي ستلقى على عاتقي في القريب العاجل، فهي مسؤولية كبيرة جدا، وهناك في موقع العمل الجديد جاءتني ليز واقتربت مني وقالت: «كيف ترى الأمور، هل أنت مستعد لذلك؟»، فقلت لها: «نعم، إنني أتشوق كثيرا لهذا العمل» وقبل أن أكمل قاطعتني قائلة: «ساعات عملك الجديد ستكون من 11 صباحا حتى 8 مساءً أيام الأسبوع العادية، ومن الثامنة صباحا حتى الواحدة ظهرا أيام السبت، وعملك سيبدأ رسميا بعد أسبوعين من الآن، لأنك بحاجة لأن تقضي معي عدة أيام لأعلمك وأرشدك إلى كيفية أداء المهام الجديدة التي ستناط بك». الذهاب إلى الجنة وقبل أن أغادر عملي في مجموعة عمليات المعتقلين المشتركة، تبادلت حديثا مطولا مرة أخرى مع المعتقل مصطفى. كنا أنا وهذا السوري قد تحدثنا كثيرا حول الدين الإسلامي والدين المسيحي، ومع الوقت بدأت أفهم رحلة مصطفى إلى الإسلام المتطرف، ومن شوارع دمشق إلى جبال أفغانستان، وأخيرا إلى معتقل كالجحيم في زاوية مقتطعة من كوبا. كان في البداية يعيش حياة مليئة بالمغامرة وملاحقة النساء في سوريا، لم يكن أحد في أسرته يصلي أو يصوم أو يذهب إلى المسجد، في أحد الأيام طرق أحد الدعاة باب منزله، سأل مصطفى لماذا لم يكن يذهب هو أو أي فرد من عائلته إلى المسجد، وشرح له أن الإسلام يعلم الإنسان أن يخاف من الله وأنه سوف يحاسب يوم القيامة على أفعاله، وهكذا اقتنع مصطفى شيئاً فشيئاً بمنطق هذا الداعية، وأصبح أحد الدعاة هو نفسه. وقبل أن يمر وقت طويل، توجه إلى أفغانستان للمساعدة في أعمال الدعوة والإرشاد. وتحول شيئاً فشيئا إلى الإيمان العميق بأن من واجب كل مسلم أن يجاهد ضد الكفار، الذين يتمثلون في اليهود والأمريكيين بشكل رئيسي، فسألته كيف كان يشعر وكيف تغيرت حياته بعد أن التزم بالقضية، كان جوابه شبيها بكلمات سمعتها من قبل من عدة مسيحيين التزموا بعد حياة عابثة. قال لي: «يا بسام، قبل أن أسلك الطريق المستقيم، لم يكن لحياتي معنى. كنت تائها بلا هدف. والأسوأ من ذلك أنني كنت سأواجه غضب الله علي في النهاية، أما حاليا فحياتي لها معنى. إنني أكرس نفسي لشيء أعظم مني بكثير لنشر الإسلام، بسبب ذلك الالتزام، سيكون لحياتي وجهادي أثر هنا في الدنيا إن شاء الله، وسأذهب إلى الجنة إن شاء الله.». كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في المغرب