كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. في العام 1978، ذهبنا في رحلة إلى بانغي، عاصمة دولة إفريقيا الوسطى مروراً بأنجامينا. وجدنا تلك الدولة فقيرة وذات إمكانيات بدائية. قصر الضيافة كان عبارة عن دارة متواضعة على نهر«أوبنغي». تكسو ذلك البلد غابات كثيفة وشاسعة، والعشب يرتفع أمتاراً فوق الأرض، والطقس حار جدا والرطوبة عالية. هطلت علينا أمطار كانت أشبه بصنابير مياه فتحت في السماء. ابتلت ملابسي بالكامل بمجرد أن ترجلت مسافة خمسة أمتار بين السيارة، التي كنت استقلها، وباب دارة الإقامة. والأغرب من هذا أنها جفت خلال نصف ساعة بينما كنت أرتديها. لم يكن هناك مجال للتجوال أو اكتشاف معالم تلك المدينة، فهناك طريق واحد معبد ومعالم الفقر والبدائية ظاهرة بوضوح في كل مكان. اجتمع العقيد برئيس تلك الدولة «جان بيديل بوكاسه»، وكانت المحادثة من خلال مترجم، فبوكاسا يتكلم الفرنسية والعقيد لا يعرفها. سمعت كل ما دار من حديث ملخصه وعود غير محددة وكثيرة من العقيد بإقامة مشاريع استثمارية ليبية في ذلك البلد. بعدها بدأ حفل إدخال بوكاسا في الدين الإسلامي. ردد التشهد ومن بعده زوجته الفرنسية. ثم باركه العقيد وأطلق عليه اسم «صلاح الدين بوكاسا». تبعت هذا الاحتفال إجراءات أصدق وصف لها هي الفوضى والبدائية. بدأ أعضاء الوفد الليبي (المراسم والحرس) بإحضار أفراد من ذلك البلد أمام العقيد لترديد التشهد، ومن ثمة الإنعام على كل منهم باسم إسلامي دون أن يفهم أحدهم ما الذي يجري. استمرت المهزلة لساعات. في اليوم الثالث، عدنا إلى طرابلس. ما أن وصلنا حتى أعلن نبأ ارتداد «صلاح الدين بوكاسا» عن الإسلام، وعودته للدين المسيحي وإنعام بابا روما عليه بلقب «الإمبراطور جان بيديل بوكاسا». في إحدى الرحلات، كان العقيد يسوق سيارته بنفسه ويصطحب معه زوجته واثنين من أولاده. على جانب الطريق في وسط الصحراء، مررنا ببناء على شكل غرفة مهملة. توقف العقيد فجأة وهبط من السيارة وتوجه إلى تلك الغرفة. جال في خاطري للوهلة الأولى أنه يريد قضاء حاجة، توقف الرتل ولزم الجميع سياراتهم. دخل العقيد إلى تلك الغرفة، هنا تبعته كما تبعه الحرس. ما أن وصلنا، حتى امتلأت الغرفة بالجنود المدججين بالسلاح واكتشفنا أن الغرفة عبارة عن حانوت بدائي، وأن العقيد قد ابتاع علبتي سردين وخبزتين ووجدناه يُمَاكس صاحب الحانوت. ما أن لمحنا هذا الأخير حتى عرف من يكون ذلك الشخص. اضطرب وتلعثم ورفض أخذ مقابل للسلعة. حقا إنها أمور عقيدية. العقيد والشيعة تردد أن العقيد على خلاف أو عداوة مع الشيعة، ولا بد من تصحيح هذا المفهوم. كما أسلفت: أولاً: إن العقيد بنفسه قد أبلغني أنه من نسل الإمام موسى كاظم، وعندما زرنا بغداد في يونيو1979، أصر على زيارة ضريحه (علما أنه لم يقم بزيارة قبر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم طواعية، بل بناء على نصيحة من مستشاره الديني) وصلى هناك ركعتين وتصدق على من كان من الفقراء. ثانياً: العقيد كان من أكبر داعمي المقاومة الوطنية بقيادة الإمام موسى الصدر، والفلسطينيين. لكن يظهر أنه قد وقع خلاف بينه وبين الإمام موسى الصدر لأمر ما. حضر الإمام موسى إلى ليبيا للمشاركة في احتفالات عيد الثورة، بعدها اختفى. أعلنت ليبيا أنه غادرها على متن طائرة إلى إيطاليا، لكن إيطاليا أنكرت وصوله. من هنا بدأت الأقاويل وساءت العلاقات مع الشيعة في لبنان. ولقد ذكرت مسبقا، أنني نصحته بعدم زيارة لبنان بسبب هذه القصة. ليس لدي ما أعلق عليه بشكل رسمي. إلا أنني أعتقد أن ما حصل هو بسبب الخلاف بينهما، (العقيد والإمام) تم سجنه، وربما وقع تلاسن أدى إلى عنف إما مباشرة أو بعد سجنه، راح الإمام وصاحبه ضحية ذلك العنف. والشيء بالشيء يذكر، تذكرت مسلسل الأحداث لأن هذه المرة لم تكن الأولى. ففي إحدى المرات، سجن نقيب المحامين (الأستاذ الدربي) وكان رئيساً لفرع حزب البعث في ليبيا. صفح عنه العقيد وأخرجه وطلبه للمقابلة. أثناء المقابلة عنفه العقيد وسفه آراء البعث وقال: «لا يمكن أن تؤمن بهذا الهراء». رد عليه المحامي «الهراء هو ما جاء في كتابك الأخضر». لطمه على وجهه. بصق المحامي في وجهه، في التو، استل العقيد مسدسه وقتله بدم بارد. هذه أيضا تكررت مع عمر المحيشي، فبعد أن سُلم له استدعاه إلى مكتبه وقتله وداس برجله على فمه وقال: «هذا جزاء من يتجرأ على فتح فمه». لأعود إلى موضوع الإمام موسى الصدر، لا يمكن أن يكون حياً (إلى سبتمبر سنة 1984، السنة التي غادرت فيها ليبيا) لسبب واحد، وهو أنه كان رجلا كبيراً في السن، ولا بد أنه أثناء فترة السجن (لو كان حيا) قد أصيب بمرض ما أو شكوى تستدعي استشارة الطبيب، ولما كنت المؤمن على أسرارهم (الطبية) وأعتبر من أهل البيت، لكان أحضر إلي أو أخذت له (كما كان يفعل في معظم السجناء السياسيين بمن فيهم ولي العهد). ولما لم أره ولم أستشر حول حالته، فإنني أستطيع أن أجزم أنه مات. ثالثا: أثناء الحرب العراقية الإيرانية، كان العقيد يدعم إيران بالمال والسلاح بشكل علني، وسبق أن ذكرت أنني بصحبة الرائد عبد السلام جلود، زرنا إيران، أثناء الثورة عن طريق موسكو وطشقند ومكثنا هناك أسبوعا تمت فيه الكثير من المحادثات. وقيل أيضا إن القذافي قد دعا الإمام الخميني إلى الهبوط في ليبيا أثناء رحلة عودته من المنفى في فرنسا إلى طهران، لكن الدعوة لم تتم الاستجابة لها. من هنا، أعتقد أن سوء العلاقة مع الشيعة كان بالصدفة أو غير مخطط له، والله اعلم. العقيد وجورج دبليو بوش لم يخف العقيد، من أول وهلة، طموحه المتناهي، وكان من السهل على من يلازمه أن يطلع على أهدافه ونواياه. ولقد ذكرت سابقا ثلاث حوادث تعطينا مؤشرا دقيقا وحساسا على ما نحن بصدده. الحادثة الأولى: وقع حدث أثناء حوار مع طلبة جامعة قاريونس (بنغازي)، تم في سنه 1972، في ميدان لكرة القدم. حضره معظم أعضاء مجلس قيادة الثورة، بمن فيهم معمر القذافي وأذيعت وقائعه على الهواء مباشرة. كان يدير الجلسة الرائد بشير هوادي، احتد النقاش بين الطرفين، وكان اعتراض الطلبة الأساسي على موضوع الوحدة مع مصر. رأى الطلبة أن الوحدة لن تكون في صالح ليبيا، بل إن المستفيد الوحيد هم المصريون، فالشعب الليبي قليل العدد، ذو إمكانيات مادية هائلة ومستقبل يبشر بالخير. إن تمت الوحدة، سيصبح الشعب الليبي أقلية في بلده، وخيراته ستذهب إلى مصر. واستعمل أحد الطلبة عبارة شديدة مخاطبا بشير هوادي قائلا: «هي مش بلاد أبوكم علشان تبيعوها كيف ما تبو». هنا، نهض العقيد ثائراً، وانتزع المذياع من بشير هوادي وقال: «مستوى هذا النقاش غبي، لو واحد فكر فيكم شوية، لأدرك مصلحة ليبيا في الوحدة، أنا العهد المباد ورثني مليوني تنبال، وعلشان أحميلكم البترول أمتاعكم، يلزمني مليوني جندي لحماية الحدود الغربية، ومثلهم لحماية الحدود الشرقية، وكذلك الحدود الجنوبية ومليونين لحماية الشواطئ، منين نجيب هذي الجنود، شي تاني إذا كانت الوحدة لصالح المصريين، سموا رواحكم مصريين ساعتها حتكونوا مع الرابحين»، وانفض الجمع بعد هذا. أما الحادثة الثانية: وقعت في شهر مارس 1976 بعدما انتهت المناورة الحربية البحرية وأبلغ قائد القوات البحرية الليبية العقيد الشكشوكي العقيد القذافي بأن العام المقبل ستكون القوات البحرية الليبية الثانية من حيث القوة في البحر الأبيض المتوسط، فرد عليه معمر «ساعتها سيأتي يوم إيطاليا». والحادثة الثالثة : وقعت في يوليو 1977 بعد القصف الجوي المصري لمناطق عدة في شرق ليبيا، وأثناء عودتنا بطائرة نفاثة صغيرة من طبرق إلى طرابلس، خاطبت العقيد قائلاً: «خليك من المصرين يا أخ القائد، شن تبي منهم»، رد علي بوضوح «راهم سبعين مليون جندي يا دكتور». ما سبق، يؤكد للمتتبع الذكي ما هي أهداف العقيد وطموحه. ولقد حاول العقيد تنفيذ أهدافه بطرق شتى: 1 - في سنه 1970، أرسل الرائد عبد السلام إلى الصين لشراء قنبلة ذرية، وقدم ثمنا لها 100 مليون دولار وبالطبع قوبل طلبه بالرفض. 2 - محاولات الوحدة مع كل من حوله (مصر، السودان، تشاد، الجزائر، تونس، سوريا). 3 - محاولة شراء واستعمال المقاومة الفلسطينية لحسابه، وكان هذا السبب الرئيسي لخلافه مع ياسر عرفات، الوحيد من جماعات المقاومة الذي رفض هذا. 4 - محاولة شراء المقاومة اللبنانية، وعلى الأغلب، فإن الإمام الصدر قد رفض هذا، مما أدى إلى ما حصل. اقتناء كميات مهولة من السلاح، بالرغم من أن كل من حوله، عرب وليسوا أعداء، زد على هذا عدم وجود أطر تستطيع استعمال ذلك السلاح، الشيء الذي اضطره إلى تدريب طلبة المدارس الثانوية على استعمال الصواريخ بعيدة المدى. لقد شاهدت بأم عيني ولأكثر من مرة مناورات في جنوب الصحراء الليبية. كان طلبة المدارس الثانوية أثناءها يطلقون تلك الصواريخ، وعندما سألته أين تذهب تلك الصواريخ أجاب «تشاد». منذ الوهلة الأولى، عين النقيب عبد الله السنوسي (بعد أن تزوج أخته صفية وأصبح أحد أقرب المقربين له والمؤمن)، مسؤولاً عن الحركات الثورية في إفريقيا، ووضع تحت تصرفه مئات الملايين من الدولارات. وكل ما قام به العقيد من إنفاق أو مشاغبات كان عن طريق عبد الله السنوسي. لما خاب الأمل في كل ما سبق ذكره ، وخصوصا الحصول على القنبلة الذرية عن طريق الشراء، بدأ تفكير الرائد عبد السلام في الاستحواذ على الخبرة محليا، كان هذا بالتعاون مع عمر المحيشي، وزير التخطيط في ذلك الوقت، وكانت تتم كل الإجراءات المتعلقة بهذا الموضوع (مع مواضيع علمية أخرى) في وزارة التخطيط. تحصل الليبيون على مفاعل نووي (دمية)، وأرسلت أطر إلى باكستان للتدرب لدى العالم الباكستاني عبد القدير خان (أبو القنبلة الذرية الباكستانيه)، لم يكن بينهم أي إطار ليبي، كان معظمهم من المهندسين الفلسطينيين خريجي الاتحاد السوفيتي وباكستانيان. بعدما عاد هؤلاء إلى ليبيا، لم يجدوا ما يفعلون، وكانوا يقضون أوقاتهم في لعب الورق، وكثير منهم كانوا أصدقاء لي وأشاركهم لعب الورق في أوقات الفراغ، ولا أنكر أن الغلبة كانت لهم لكثرة تدريباتهم أثناء فترة عملهم. المفاعل النووي هذا وضع بجانب البحر في ضاحية تاجوراء، على جانب الطريق الساحلي الذي يربط طرابلس بالشرق (الخمس، زليطن، مصراته الخ). كان يبعد عن مستشفى القلب مسافة كيلومترين فقط. ولقد زرته عدة مرات، إما في زيارة عمل (من أجل بحث إمكانية التعاون مع تلك المؤسسة النووية علميا لتزويد مستشفى القلب بالمواد المشعة المستعملة طبيا- حيث كنا ولغاية سنة 1984 نستورد تلك المواد من شركة «أمرشام» البريطانية، وكان علينا أن نرسل شخصا يستلم الشحنة من الطائرة ويحضرها فورا إلى المستشفى لقصر مدة الصلاحية. كان هذا يسبب لنا إزعاجا كبيرا) وكم تمنيت من المفاعل أن يزودنا بهذه المادة ولكن دون فائدة. وأطرف ما سمعت في تلك الزيارة من صديق لي، كان أحد الخبراء، وهو أردني الجنسية من أصل فلسطيني، اسمه (ع. ع)، «شوف بدك علم روح شوفلك مجنون زيك، بدك تلعب ورق أحنا على استعداد أربع وعشرون ساعة لك وللمرضى تبعونك، ومستعدون لتنظيم جولات في هذا الموضوع». كل ما ذكر أعلاه، كان القصد منه: تبيان أهداف العقيد بوضوح. إيضاح أن المفاعل النووي لم يكن إلا دمية صدئة لا تعمل وليس لديها أي إمكانيات. حتى الخبراء لم يكونوا ليبيين، ولقد ترك معظمهم العمل منذ مدة طويلة. من هنا سنأتي للب الموضوع، ألا وهو تسليم العقيد فجأة وطوعا «لإمكانياته الذرية وأسلحة الدمار الشامل» ، بعدما حصل في العراق. صُورَ الأمر على أنه انتصار لجورج بوش الابن وسياساته التي أرعبت الإرهابيين أمثال صدام حسين ومعمر القذافي، وخلصت العالم من إمكانيات نووية كانت غير مأمونة الجانب. الحقيقة أن معمر القذافي لم تكن لديه أية إمكانية لتصنيع أسلحة الدمار الشامل النووية وغير النووية، وأنا على ثقة أن المخابرات الأمريكية تعلم هذا تمام العلم. ولو كان لديه أي منها لاستعملها في معركة الحياة والموت هذه الأيام ضد ثوار سنة2011. وما تسليم المعدات الصَدئِةُ والخَرِبةُ للعبة المسماة المفاعل النووي الليبي إلا خطوة قررها «المخرج الكبير» في ذلك التوقيت، لرفع أسهم سيده جورج دبليو