كان قراري أن أدوّن بصدق كل الأحداث التي عشتها، وعلى الأخص تلك المتعلقة بالفترة الممتدة من سنة 1971 إلى سنة 1984 (ثلاثة عشر عاما) لصيقاً بالعقيد معمر القذافي، إذ كنت طبيبه الخاص. تلك الفترة التي أدخلتني قصوراً ودهاليز لم تتح لغيري، وحضرت لقاءات واطلعتُ على أسرارٍ لم يكن من المفروض على مثلي حضورها أو معرفتها. هذا الكتاب يهتم بتسجيل جزء هام من هذه المرحلة، وهي على سبيل التحديد، فترة ثلاثة عشر عاما من حياة القذافي، بما أثار من تساؤلات عن شخصيته وتصرفاته وأُسُس وأهداف سياسته. كان اسم ليبيا من عام 1951 إلى 1969 «المملكة الليبية»، ثم تغير بعد انقلاب معمر القذافي إلى «الجمهورية العربية الليبية». في شهر يناير 1977، طلب العقيد من المؤتمرات الشعبية في جميع أنحاء الجمهورية اختيار اسم لليبيا. ناقش الشعب من خلال مؤتمراته الشعبية الفرعية على مدى ستة أشهر مختلف الاقتراحات. استقر الرأي على أن يكون اسمها «الجمهورية العربية الليبية الشعبية» من خلال التدخلات التي كان يقوم بها العقيد بين الفينة والأخرى عبر الإذاعة والتليفزيون. في شهر يونيو 1977، بدأ مؤتمر الشعب العام (البرلمان) اجتماعاته، وتكرر ما قيل في المؤتمرات الشعبية الفرعية. فجأة ظهر العقيد في القاعة، وألقى محاضرة على أعضاء مؤتمر الشعب العام، ضارباً عرض الحائط كل ما دار من نقاش وقرار مَنْ يدعي هو أنهم أصحاب القرار! اخترع العقيد اسماً جديداً لم يخطر ببال أي من «أصحاب القرار». قال: «بما أن من يحكم هم الجماهير، وعندما ينسب الشيء ينسب لأصله، إذن لا بد من تسمية ليبيا ب«الجماهيرية» وليس الجمهورية، وستكون هذه أول جماهيرية في التاريخ. وبما أن أهل ليبيا عرب فلا بد أن تضاف للاسم كلمة «العربية». وبما أن البلد هو ليبيا، فيجب إضافة «الليبية». وبما أن الشعب هو مصدر السلطات وجب إضافة كلمة «الشعبية». ثم بما أن السياسة الاقتصادية المتبعة هي الاشتراكية فعلينا إضافتها ليكون اسم ليبيا: الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية. وهكذا صفق «أصحاب القرار»، واتخذ الشعب قراره بكل حرية، معلنا قيام أول جماهيرية في التاريخ!!!. بقي الاسم كما هو حتى إغارة الطائرات الأمريكية على ليبيا سنة 1986، فظهر العقيد مرة أخرى على التليفزيون المحلي وأعلن «بما أن ليبيا دخلت حربا مع دولة عظمى، فهذا يعني أن ليبيا دولة عظمى»، من هنا أصبح اسم ليبيا:الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى. هذه القصة واحدة من آلاف القصص التي تدل على أكذوبة حكم الشعب، وبأن القذافي لا يحكم . كان يتصرف كمدير مدرسة خاصة، فالشعب هو الطلاب والوزراء هم المدرسون، أو كمالك مزرعة والوزراء خدم لديه. لم يكن يهتم بأمور الشعب اليومية، بل كان متفرغاً لأمنه الخاص، ويراقب كل شيء. ترده تقارير الاستخبارات من كل أنحاء الدولة، ولا يتردد في إلغاء وتغيير أو توبيخ أو طرد أي من الوزراء بعد إهانته، وأحيانا الركل بالأرجل. وقد رأيت هذا بأم عيني. كان ذلك عقاباً لوزير الاقتصاد آنذاك لاستيراده السيارة الكورية جنوبية الصنع «البوني». لم يكتف بهذا، بل صب جام غضبه في كلمة متلفزة على السيارة والغبي الذي أضاع أموال الشعب في استيراد سيارة سيئة. في شهر يونيو من سنة 1977، زار ليبيا وفد رسمي من ألمانياالشرقية برئاسة نائب رئيس الجمهورية. تصرف العقيد كالمعهود. في صبيحة ذلك اليوم اتجه براً إلى بوهادي، وفي المساء أُحضرَ الوفد الضيف إلى هناك بطائرة عمودية أصابها عطل فني كما وقع للطائرة التي أحضرت أنور السادات. استمر الاجتماع حتى ساعة متأخرة من الليل، مما أدى إلى رفض الطيار الإقلاع ليلاً لعدم توفر شروط السلامة. انقض البعوض على الوفد الألماني كما حصل لأنور السادات، ولكن مع فارق الدم. في هذه المرة كانت الوليمة دما أزرق (ألماني). في صبيحة اليوم التالي، وبدون أي ترتيب بروتوكولي، توجه الوفد الألماني مصحوباً بالمهندس طه الشريف بن عامر ورئيس التشريفات أحمد أبو شاقور إلى الطائرة. وما أن ارتفعت الطائرة عشرة أمتار عن الأرض أو يزيد حتى اشتعلت فيها النار وهوت وهي ملتهبة وأصبحت جمرة من نار. لم يحاول أو يستطيع أحد من الحضور إطفاءها أو عمل شيء، وبقيت النار مشتعلة بها ساعات، ولم تظهر أي علامة للحياة لمن بداخلها. وبالرغم من الكارثة، فقد صدرت التعليمات بالاستعداد للتوجه إلى الصحراء من أجل الصيد وتمضية الوقت!!!!. عندما عدنا في آخر النهار، كانت النيران ما تزال مشتعلة في جسم الطائرة. وفي الصباح وبعد أن انطفأت النيران، قمنا بتفقد الطائرة. كان كل من فيها متفحماً والأجساد متراكمة فوق بعضها البعض. لم يكن من السهل التعرف على هوياتهم. تكفل بالأمر النقيب خليفة حنيش (آمر الحرس الخاص)، وأخذ يقرر هذا ألماني وهذا ليبي. تعرفت وبعض من الحرس على جثة أحمد أبوشاقور، الذي كان في إصبعه خاتم مميز وحزامه عريض له حديدة غريبة الشكل. لم يكن نصفه الأسفل محترقاً فقد كان ملقى على جسد شخص آخر. أصر النقيب خليفة حنيش على أن تلك الجثة لا يمكن أن تكون لمسلم، لا لشيء إلا لأنه لم يكن حليق العانة (ذكرت هذه النقطة لأُدلل على ضحالة تفكير وضيق أفق أحد أهم أعوان العقيد). وهكذا أرسلت جثة أحمد أبوشاقور لتدفن في ألمانيا. وأكثر ما استفزني وآلمني هو عدم المبالاة من العقيد وجماعته. الناس يحترقون، ولا محاولة للإنقاذ ولا حتى شعور بالحزن والألم، بل على العكس كان الذهاب للصيد والترفيه. في يوليوز 1977، ساءت العلاقات إلى درجة كبيرة بين معمر القذافي وأنور السادات، مما أدى إلى وقوع صدام مسلح. أغارت الطائرات المصرية على مواقع عدة من ليبيا، وأهما قاعدة العدم لكونها القاعدة الرئيسية في شرق ليبيا ولوجود العقيد فيها. فوجئ العقيد بالغارة وارتبك وأصيب بالهلع. وبمجرد انتهاء الهجوم الجوي المصري، أقلعنا إلى طرابلس بطائرة نفاثة تحمل ستة ركاب، هم العقيد وسعد مسعود وأحمد رمضان وأنا ومدير البروتوكول وعبد الرحيم الساعدي. أثناء رحلتنا خاطبت العقيد قائلا: «يا أخ القائد، خليك من المصريين، شن تبي فيهم؟». رد قائلا: «راهم 70 مليون جندي يا دكتور». ذكرت هذه الحادثة لسببين، أولهما توضيح خلفية وتفكير العقيد، إذ يريد الوحدة مع مصر ليحصل على 70 مليون جندي ليحقق بهم طموحه اللامتناهي للسيطرة على العالم العربي وما جاور، ومن أجل أخذ الثأر من إيطاليا. أما السبب الثاني، فهو من أجل فضح التزوير وعدم دقة المعلومات التي سردها الكاتب المصري محمد حسنين هيكل في مقاله، حيث ذكر على لسانه تعليقا على تلك الأحداث بأنه كتب في إحدى مقالاته «حين كانت الطائرات المصرية تقصف الليبيين كان الأطباء المصريين، وعلى رأسهم الدكتور مصطفى الشربيني (الجراح المصري الشهير)، يعالجون الجرحى»، علما بأن الدكتور مصطفى الشربيني كان قد ترك ليبيا نهائيا كما ذكرت في سنة 1973.
أستاذ أمراض القلب والطبيب الخاص لمعمر القذافي سابقا