محمد كركاب وعيا بالحالة المزرية لقطاع التعليم المدرسي والعالي في المغرب وبتدهوره في السنوات الأخيرة، لجأ المسؤولون إلى إعداد ميثاق للتربية والتعليم سنة 1999 بهدف تطويره وتحسين ظروف عمل الفاعلين فيه. وبعدما فشلت المرحلة الأولى من الإصلاح في تحقيق هده الأهداف، سارع المسؤولون، مرة أخرى، إلى إعداد برنامج إصلاح جديد سمي الاستعجالي، وبهدف تدارك العجز الذي يعاني منه الغرب في ميدان التكوين والتعليم. وقد تم إنجاز برنامج هذا الإصلاح من طرف مكتب دراسات (Valyans) وخصص له غلاف مالي إضافي هامّ بقيمة 35 مليار درهم، منه 12 مليار درهم للتعليم العالي وللفترة بين 2009 -2012 وحدها، ومع ذلك، ازداد تدهور مستوى التكوين العالي تفاقما. وعلى كل حال، فالمال وحده لن يستطيع حل مشاكل التعليم في المغرب. إن نموذج التسيير المالي والتربوي والإداري، بما في ذلك المراقبة ومحاربة الفساد، بكل أنواعه، ومعاقبة المتورطين فيه هو السبيل الوحيد الذي يمكن أن يساهم في تحسين الوضع التعليمي في المغرب. وبما أن أغلبية المسؤولين في الجامعة والمعاهد العليا لا يهُمّهم إلا الاغتناء السريع، فإن الإصلاح الاستعجالي الذي منحهم أموالا إضافية هائلة زاد الأمر تعقيدا. وللتذكير، فقد بلغت قيمة ميزانية الإصلاح الاستعجالي المرصودة للجامعات سنة 2009 حوالي 4 مليار درهم و20 مليون درهم (مليار و703 ملايين درهم في إطار ميزانية التسيير ومليارين و317 مليون درهم في إطار ميزانية الاستثمار). وعلى سبيل المثال، فإن ميزانية الاستثمار لسنة قد تم تقسيمها كما يلي: مليار و461 مليون درهم لمشروع تحسين عرض التعليم العالي ومليار و173 مليون درهم لمشروع توسيع الطاقة الاستيعابية و288 مليون درهم لمشروع ترميم وصيانة المؤسسات الجامعية، وأخيرا 75 مليون درهم لمشروع تشجيع البحث العلمي. أما مجموع ميزانية الإصلاح الاستعجالي في الجامعات لسنة 2010 فقد بلغت 5 ملايير و507 مليون درهم، منها ملياران و807 ملايين درهم للتسيير ومليارين و762 مليون درهم للاستثمار. وتم توزيع ميزانية الاستثمار لسنة 2010 كما يلي: مليار و800 مليون درهم لتحسين عرض التعليم العالي، ومليار و352 مليون درهم لتوسيع الطاقة الاستيعابية، و436 مليون درهم للصيانة والترميم، ومبلغ 129 مليون درهم لتشجيع البحث العلمي. وإضافة إلى هده الميزانية، هناك موارد مالية أخرى خُصِّصت لقطاع التعليم العالي في إطار عدة مبادرات، كمبادرة 3300 طبيب و10000 مهندس و10000 ناشط اجتماعي ومبادرة التنمية البشرية. وجدير بالذكر أن نسبة الميزانية المخصصة للتعليم العالي والمدرسي في السنوات الماضية لم تتجاوز نسبة 14 إلى 16 في المائة من مجموع ميزانية الدولة، عكس ما يدّعيه دائما المسؤولون وتكرره المنظمات الدولية، كالبنك الدولي مثلا، في تقاريرها التنموية. وحسب هذه الادعاءات الكاذبة، فان نسبة ميزانية التعليم والتربية تفوق 30 في المائة من ميزانية الدولة، وهي نسبة تفوق بكثير نسب الدول المتقدمة، كفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.. إلخ. ويعود هذا الكذب والتضليل إلى تزييف قاعدة احتساب المئوية، إذ يلجأ المسؤولون عمدا إلى استبعاد مصاريف الديون العمومية الداخلية والخارجية، والتي يبلغ مجموعها حاليا 384 مليار درهم. ففي سنة 2010، بلغت قيمة الديون المُستحَق أداوها 36 مليار درهم ونصف المليار) وفي السنوات الأخرى، وصلت إلى أكثر من 42 مليار درهم. كما يتم استثناء بعض الحسابات العمومية الخاصة للميزانية من احتساب النسبة (48 مليار درهم سنة 2010 مثلا). كما يتم تجاهل مصاريف المصالح العمومية المستقلة، كالإذاعة والتلفزة، التي تصل قيمتها مليارين ونصف مليار درهم في نفس السنة، علما أن أداء جميع هذه الديون ومصاريف هذه المؤسسات العمومية والحسابات الخاصة يتحمله المواطنون. ورغم أن الإصلاح الاستعجالي ضخ موارد مالية هامة في الجامعات، فقد صار مسؤولوها لا يعرفون ماذا يفعلون بهذا الكم الهائل من المال، فصاروا يختلقون «مشاريع» و»أوراشا» وهمية للاستحواذ عليه بشتى الطرق: مثلا بناء المتاحف وترميم موافق السيارات وغرس الأشجار والبساتين وتنظيم الأسفار السياحية إلى كل بقع العالم وخلق عدد كبير من «التكوينات» الوهمية في الإجازات المهنية ومسالك الماستر.. والتي لا تستطيع حتى أشهر الجامعات الدولية تدبيرها، إضافة إلى تنظيم ندوات تافهة واستقبالات رسمية تشبه، كثيرا، حفلات الشاي والرقص. ولتبرير صرف الميزانيات والحصول على مزيد منها، صار كثير من عمداء ومديري ورؤساء الجامعات، وحتى الأساتذة المستفيدون معهم ماديا ومهنيا، يتلاعبون بالأرقام، كتضخيم عدد ساعات التدريس الإضافية للحصول على تعويضات هامة، أو رفع عدد الناجحين، ولو بدون استحقاق. وهكذا ساهم الإصلاح الاستعجالي في تبذير المال العامّ وفي إنتاج كم هائل من الخريجين الذين لا يتقنون حتى اللغة التي درسوا بها.. فبالأحرى فهم وتطبيق مضامين تكويناتهم. ولهذا يجب التذكير بأن استعمال الإحصائيات والأرقام التي يرتكز إليها برنامج الإصلاح الاستعجالي كأداة لقياس بعض جوانب التدبير التربوي والإداري والمالي في الجامعة التي لا تنتج مواد من قبيل الإسمنت أو الألبسة، وإنما مادة المعرفة والبحث العلمي، يشترط قراءة خاصة والتعامل معها بكل حذر، فقياس المعرفة صعب جدا وتنميتها تتطلب وقتا طويلا لقطف ثمارها. كما أن لغة الأرقام (نسبة النجاح والخريجين وعدد الطلبة) لا تقول شيئا عن جودة التكوين والبحث العلمي. إن أهمية هذه الأرقام تمكن في أن تلعب دورا مهما في تقييم التدبير الإداري والمالي، إذن، فهم المسؤول استعمالها، وهو ما نجده نادرا. وللإشارة، فإن استعمال الإحصائيات يمكن أن يلعب دور التخدير وتحويل الأنظار عما لا يريد المسؤول قوله أمام الرأي العام، فأغلبية الإحصائيات في الميدان الاجتماعي مثلا في الدول المتخلفة (التضخم، البطالة، الفقر والتعليم وغيره) يكون إعدادها مُحتكَرا من طرف صناع القرار، وبذلك تكون زائفة ومغلوطة. فنسبة البطالة في المغرب، مثلا، والمحددة رسميا في بين 9 و11 في المائة، هي نسبة تدعو إلى «الضحك»، لأنها نسبة تعادل الرقم التي يُسجَّل في الدول المتقدمة التي يحاول المغاربة الهجرة إليها، كألمانيا وفرنسا، والواقع أن نصف سكان البلاد، وربما أكثر من ذلك، يعانون من البطالة. وبما أن عدد المؤشرات الإجمالية التي يستعين بها التقرير لقياس منجزات الإصلاح الاستعجالي يفوق 42، وأن كل مؤشر يتكون، من جهته، من عدة مؤشرات أخرى، فإنه غير ممكن أن نتطرق إليها كلها في هدا المقال، ولهذا سنقتصر على ذكر أهمها، والمرتبطة خصوصا بتوسيع وتحسين عرض التعليم العالي وتشجيع البحث العلمي وتقوية الكفاءات وعملية التتبع والتقييم.. إن الأرقام المتعلقة بعدد ونسب الطلبة المسجلين والناجحين في الإجازة والماستر والدكتوراه والراسبين والمغادرين للجامعة وأعداد الأسِرّة في الأحياء الجامعية والأطباق المقدمة فيها.. يمكن أن تلعب دورا هاما في تقييم الجانب التدبيري وفي السياسات التعليمية. لكن جودة التكوين والبحث العلمي والأطباق المقدمة للطلبة لا يمكن استنتاجها من هذه الأرقام، فهي لا تتضمن أي شيء عن حقيقة مضامين البرامج المقررة وعن عدد ساعات التدريس وشروط اجتياز الامتحانات وكيفية التنقيط ومدى احترام معايير الاستحقاق وعن جودة بحوث الإجازة والماستر والدكتوراه، والتي لا أحد يقوم بتقييمها وتصحيحها عادة. نفس الشيء بالنسبة إلى أرقام النسب الرسمية، مثل استغلال الطاقة الاستيعابية للمدرجات أو القاعات (92 في المائة على المستوى الوطني و109 في المائة في المجال المفتوح) فهي غير صحيحة، لأننا عادة ما نرى المدرجات والقاعات فارغة من الطلبة ولا تصل النسبة الحقيقية حتى إلى 50 في المائة في بعض الكليات. (يتبع)