ظبية خميس عام 2011 بركان وزلزال على نفوس العرب. ما من انتصار كامل وواضح ولا سقوط كامل وواضح. تخرج أمراضنا يدا بيد مع تعاستنا. شباب يدفع أعماره من أجل الحرية ويشترك في كراهيته للطغيان بكافة أشكاله والحلول تختلف. أكوان داخل أكوان. أحلام بديموقراطية عصرانية غربية المنهج، إسلاميون يخرجون بسيوفهم ولحاهم وقمعهم المرتقب، انتهازيون يتقافزون كما القرود على أشجار يظنون أنها ستقودهم إلى الحكم، تحالفات بعضها مريب ويخلط الحابل بالنابل، قوى تصر على بقائها في الحكم بالنار والموت والحديد، وقوى تسمسر باسم الحرية دوليا وتتدخل في الدول الأخرى دون أن تلقي بالا إلى الحريات بداخلها. سيرك حقيقي نعيش بداخله ويتغير مشهده في كل يوم. أنا شخصيا أشعر بالاختلال- لا فرح بداخلي لما يجري وربما لحظات القلق وساعات الخوف هي الأغلب. عشت عام الثورة المصرية بحذافيره وتشتت اللهاث وراء أحداث بقية الدول العربية ومناهج الثورات المختلفة من السلمي والصدور العارية إلى القنابل والمدرعات وقصف الطيران وصور الكاميرات المهزوزة في شوارع سوريا وتجمعات الغضب الصارخ في اليمن ولقطات الإعلام على حياء للبحرين والإحساء والمظاهرات والاعتقالات هنا وهناك على امتداد الوطن من الخليج إلى المحيط. تعرفت على أقوام وشرائح جديدة تحكم حركة الشوارع من البلطجية إلى اللصوص والشبيحة والعسكر وقوات الجيوش ويشتركون في مهام الترويع والقتل وإفقاد البشر الشعور البدائي بالأمان الشخصي والاجتماعي. شاهدت الحرائق والنهب ومشاهد الدمار والإضرابات والهتافات وحركات العصيان وحروب الإنترنت والفيس بوك والآراء الكثيرة والشتائم والفضائح وفيديوهات تهتك أسرار المسكوت عنه وبيانات وكثير كثير من الصراخ اليومي الذي يكاد يكون هو الأعلى مما شهدته طوال حياتي. ولكن لا وضع يستقيم ولا حكمة تبزغ ولا قيادات واضحة تتشكل وكأن العرب في خضم كل ذلك يبحثون عمن هم في هذه الإنسانية الجديدة، وما علاقتهم بالتطور الاجتماعي والسياسي الذي وصلت إليه البشرية في التاريخ الذي نحيا فيه اليوم. صوت الحركات السياسية الدينية هو الأعلى فيما يجرى خصوصا في الانتخابات وما يشبهها. وأتساءل ما السبب، فيخطر لي أن في ذلك إشارة إلى سقوط نموذج الحرية السياسية الغربي، وخصوصا بعد الممارسات غير الإنسانية والخطاب المنافق المزدوج فيما يتعلق بالغرب حين يحدد سياساته تجاه العرب وحقوق الإنسان، وماشهدناه من ممارسات قذرة للاحتلال الأميركي للعراق وأفغانستان ومساندات للطغاة والحكومات عربيا على حساب الشعوب والموقف الراعي بشكل ثابت لإسرائيل والمشروع الصهيوني في المنطقة. من يستطيع أن ينسى مشاهد أبوغريب والخزي الجنسي الأميركي في التعذيب أو سجون غوانتنامو أو آلاف القتلى من المدنيين والخراب والنهب الذي تجسد في مدن العراق على أياديهم. من يستطيع أن ينسى الابتسامات الشرهة الصفراء لمعارضة دخلت على الدبابات الأميركية ودبابات النيتو في مدن العرب. من يستطيع أن ينسى قبلات الساسة العرب على وجنات السابقة رايس واللاحقة هيلاري كلينتون ووزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة ليفني وحفلات التكريم لشيني وبوش ورامسفيلد على موائد المسؤولين العرب؟! كلها صور تبقى في وعي الناس ولأمد طويل وهي تختلط بغضبهم وحيرتهم تجاه من يقودونهم وإلى أين وتزيد الخوف واليأس من المستقبل، وهي ترى أن لا مكان للعرب إلا كأتباع وحديقة خلفية موحشة للمصالح الغربية العسكرية والاقتصادية على وجه التحديد وتجعل المسافة ما بين الحاكم العربي والمحكوم سنوات ضوئية يزيد فيها الحقد عليه في ظل أوضاع بائسة تعيشها معظم الشعوب وفي ظل انعدام حريات متدنية لا تليق بما وصلت إليه الإنسانية في بقية العالم. لقد وصل للإنسان العربي عبر صورة جثثه ودموية الأحداث وضربه وركله والزج به في السجون أن لا قيمة له فها هو في مقابر جماعية أو جثث تنهشها الكلاب، وها هو يموت مع عائلته تحت دوي قنبلة صديقه، وها هو يعتقل على قارعة طريق، وها هو تسلب حرياته وحقوقه لمجرد مطالبات، وها هو يموت من الإهمال في العلاج إن وجد ومن الجوع والفاقة والبطالة والتجهيل، فما العمل، وماذا لدى الجيل الجديد ليخسره وقد شهد ما شهد ولم يعد لديه ذخيرة جديدة لتزييف وعيه أو تخدير ذاته أو الاتكال على القضاء والقدر. ما الذي تعنيه قنابل الغاز والرصاص الحي والخرطوش والاعتقالات والتسميم والاستعانة ببلاك ووتر أو أي قوات إجرامية تجاهه؟ ما الذي تعنيه المعتقلات والسجون والتعذيب والفصل من العمل والاغتيالات؟ ولربما موت سريع ونهايات قريبة خير من موت بطيء التهم أجيالا بكاملها قبله ارتضت بالصبر وحلول الإصلاح التي لم تتحقق والمهادنة بتزييف الوعي والمشاركة في لعبة رابحة للسلطات وخاسرة للمجتمعات. بعد أيام يحل عام 2012 والزمن مهم. لا زلنا على صفيح ملتهب وستتفجر أوضاع جديدة في مناطق جديدة وسنحتاج إلى عقود كاملة كي نعمر ما قد التهمه الكثير من الجهل والقمع والخراب. نحن أمة على شفير الحياة من جديد أو العدم. ربما هي أسئلة قرون منسية وليس مجرد حقب سياسية شهدها تاريخ العرب والمسلمين. سنحتاج الكثير من الفلسفة والعلم والموسيقى والشعر والتكنولوجيا والطب والتعليم والمعرفة.سنحتاج إلى الكثير من الحريات وحرية العقل والنفس والجسد أولا.سنحتاج إلى أطر بناء ونسج لكياننا المتراخي والمهمل والمريض والمتخلف والمحتل بالخوف والأساطير والشعوذات السياسية.سنحتاج أن نربي أطفالنا بصحة وعافية وكرامة إنسانية وتعليم وحب ومحبة حقيقية. علينا أن لا نتذكر من كنا فقط، بل إعادة اختراع وخلق ذواتنا حضاريا وإنسانيا مبقين على الجيد فينا وملغين الجوانب السلبية فينا ومتبنيين صفات جديدة تساعدنا على الانتقال لزمن جديد يليق بعقولنا وأجسادنا ونفوسنا. عام وأعوام جديدة وسعيدة لنا وللعالم.