حسب أحدث التقارير، نحن دخلنا المرحلة الثانية والأخيرة من نفاد البترول، فقد استهلكنا النصف وبقي النصف. وإذا غاض البترول انتهى عصره ودخلت البشرية عصرا جديدا. ويبدو أننا دخلنا مع فجر التاريخ مراحل من التطور طبقا عن طبق، فدخلنا العصر الحجري، ثم دلفنا إلى البرونزي، ثم عبرنا إلى الحديدي، لندخل أخيرا عصر البخار قبل مائتي عام، ثم عصر الكهرباء قبل 120 سنة، وأخيرا العصر الذري قبل نصف قرن مع تجربة أول سلاح نووي في صحراء آلامو غوردو في صباح يوم 16 يوليوز 1945م؛ وبهذا كان القرن التاسع عشر قرن الفحم والقرن العشرين عصر البترول، ويبدو أن القرن الواحد والعشرين سيكون عصر الغاز. والسؤال عن نفاد الطاقة أرَّق مكتشف البترول رقم واحد، جون.د. روكفلر، الذي مات حفيده لورانس في 11 يوليوز 2004م عن عمر يناهز 94 سنة بعد أن ورث ثروة خيالية؛ ففي عام 1865م تم الكشف عن النفط للمرة الأولى حذاء مدينة بيتهول، من ولاية بنسلفانيا، فتدفق الناس إليها يحدوهم الأمل في ثروة سريعة في نزهة مريحة. وخلال عام واحد، ازدهرت البلدة وازينت وكأنها شقائق النعمان في ربيع الجولان، وظن أهلها أنهم قادرون عليها، وشرب الناس كؤوس الخمر دهاقا، ودخل في روعهم أن الزمن استسلم لهم، وأن سفينتهم تمشي بريح طيبة إلى الأبد. وذكرت جريدة البلدة المحلية أنه شرب من الخمر في ذلك العام ما لم يشرب في أي مدينة أخرى في أي مكان في العالم؛ فهذه هي طبيعة الإنسان.. ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء. وما حصل أن البترول بعد سنة واحدة غاض بعد أن فاض، فأصبحت المدينة خاوية على عروشها، وكأن طاعونا ضربها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، ولم يتركوا خلفهم إلا الأطلال باكية وبئرا معطلة وقصرا مشيدا. ولكن البترول ليس مثل الماء أو الهواء، فالماء له دورة يجدد فيها نفسه، والأكسجين تنفثه كل زهرة وشجرة، أما البترول فهو طاقة تستهلك ومادة تحترق وتخضع لقانون الله في الإيجاد والنفاد «وما عندكم ينفد وما عند الله باق». وصراع البشر حول مصادر الطاقة لا حل له إلا بطاقة تفيض عن حاجة البشر مثل الهواء؛ فهل سمعنا عن أناس تقاتلوا حول تيار هوائي أو تنازعوا على قبضة من ريح؟ وحروب القرن ستكون حول البترول والماء. البترول كان في السابق يحارب «به» فتشحن الدبابات والطائرات بالمازوت والكيروسين، أما اليوم فالصراع يدور «حوله»، فلم يعد «وسيلة» بل تحول إلى «غاية»، وانقلب إلى أداة ضغط على السياسة والاقتصاد يحاول الكثيرون استخدامه من الحكام الديكتاتوريين والإرهابيين والعقائديين من كل ملة. البترول، حسب الخبير النفطي والصحفي دانييل يرجين، هو دم الحضارة والعمود الفقري لمجتمعات الصناعة، فهو خلف حركة كل مصنع ودوران كل دولاب، ومن غرائب الصدف أن جسم الصناعة غربي ولكن دمها شرقي.. وهو يؤكد فكرة تكامل الحضارة. إن مسألة «نفاد» البترول مسألة وقت، فمنذ 150 سنة وحتى اليوم تم العثور على 43000 حقل بترولي في الأرض، وتم استخراج واستهلاك 950 مليار برميل؛ والتوقعات أن احتياطي النفط في الأرض لن يزيد بحال على 1200 مليار برميل في عمق يتراوح بين 2000 و4000 متر، معظمها في الشرق الأوسط (685.6 مليار برميل)، والباقي موزع على بقية القارات؛ وحسب تقديرات الأوبيك الأدق فإنه 1067.2 في حدود مليار برميل، منها في السعودية 262,8 مليار برميل، أي 24,6 في المائة من الاحتياطي العالمي، أي ما يوازي ربع الاحتياطي العالمي، وهي نعمة كبيرة على المملكة لو كانوا يعلمون، مقابل العراق 115، وإيران 99، والإمارات 97,8، والكويت 96,5، وما تبقى في العالم 396 مليار برميل، ولكن تحيطها مشاكل من القلة (آسيا 38,7 مليار) والتناقص (بحر الشمال تراجع من 6 ملايين برميل يوميا إلى 5,3) وصعوبة الاستخراج (من الرمل في مقاطعة ألبرتا في كندا أو الزيت الثقيل في حزام أورينوكو في فنزويلا) وكلفة الإنتاج العالية (كندا 12 دولار للبرميل مقابل 2 في السعودية، وهو أخف)، بالإضافة إلى مشاريع التمديد بكلفات خرافية (من باكو تفليس كيهان 1800كلم بكلفة 2,9 مليار دولار)، وكان أسرع وأرخص عبر إيران، ولكنها السياسات المجنونة. وإذا عرفنا أن الاستهلاك اليومي للبترول هو في حدود 80,2 مليون برميل يوميا، فهو يعني -كما يقول بيتر ديفيس من شركة (BP)- أنه لن يبقى بترول بعد أربعين سنة (30 X 40 = 1200). يضاف إلى هذا أن الاستهلاك ليس بمعدل ثابت، بل هو في حالة (تسارع وزيادة)؛ ففي الربع الأول من عام 2004م زاد استهلاك دول شرق آسيا بمقدار 18 في المائة، وإذا كان استهلاك الأمريكي الواحد السنوي هو 26 برميلا فهو للهندي 0,9 وللصيني 1,8 برميل، ولكن الدولتين تتورمان صناعيا، وتعتبر الصين ثاني دولة مستهلكة للنفط بعد أمريكا (أمريكا تستهلك ربع الإنتاج العالمي بمعدل 20,080 مليون برميل يوميا والصين 5,630 ملايين برميل أمام اليابان 5,400 وروسيا 2.680 وألمانيا 2,640). كما أن الاستهلاك العالمي زاد بين عامي 2003 و2004 بمقدار 2 مليون برميل يوميا. والتقديرات أن الحاجة العالمية سوف تزداد من 29 مليارا سنويا حاليا إلى 42 مليارا بحلول عام 2020. والسؤال هل ستحقق الدول المنتجة للنفط هذه القفزة العملاقة؟ ويرسم ديك شيني مستقبلا قاتما بالأرقام، فيقول إن استهلاك العالم يزداد بمقدار 2 في المائة سنويا في الوقت الذي ينخفض فيه الإنتاج ب3 في المائة، مما يعني نقصا بمقدار 50 مليون برميل يوميا عام 2020م، وهو أكثر من إنتاج السعودية الحالي بست مرات؟! وهناك مشكلة إضافية في الآبار البترولية، فكل الإنتاج يقع على كاهل الآبار القديمة، و90 في المائة من الآبار هي تلك التي كشفت في العشرين سنة الأخيرة. وبئرا القوار وبورجان، اللذان كشفا على التوالي في السعودية والكويت عامي 1948 و1938م، يمدان العالم ب8 في المائة من النفط الخام، و14في المائة من إنتاج النفط في أمريكا يعود إلى المكتشف خلال ال50 سنة الأخيرة و86 في المائة من الآبار القديمة. وبرزت في شركة (شل) الهولندية فضيحة إلى النور في الكذب حول الاحتياطي في ما يعرف بمصطلح (RRR = Reserve Replacement Ratio). يقول الجيولوجي الإيرلندي كولين كيمبل، الذي نقب عن البترول منذ الخمسينيات من ترينيداد حتى بورنيو، إن هذا الشعور راوده منذ عام 1969 في الاجتماع الذي عقدته شركة آموكو للعثور على آبار جديدة في أمريكا وكانت النتيجة مخيبة للآمال. يقول الرجل: لقد راودتني الشكوك منذ ذلك اليوم، ولكن المديرين تجاهلوا هذا التحذير لأنه لا يقع ضمن منظورهم للأشياء. ويضيف: «إن البترول لن ينتهي في ومضة عين، ولكننا سوف نصل إلى تلك النقطة التي يفوق فيها الاستهلاكُ الإنتاجَ، وهي حسبما أرى قريبة جدا». وانكسار هذا التوازن يجعل البشرية تدخل «المرحلة الثانية» من عصر البترول كما يقول باول هورس نيل، من بنك بيركلي كابيتال في لندن، بأن نموذج البارادايم يتبع معادلة بسيطة: حاجة كثيرة مقابل نفط قليل، ليصل إلى تقرير أن زيادة الأسعار هذه (في مايو 2004 تجاوز سعر البرميل 41 دولارا، أما لاحقا فقد ضرب البترول ضربته فتجاوز حافة المائة ولم يرجع قط إلى ثلاثين وأربعين دولارا!) ليست طارئة وبسيطة وسطحية بل تخفي تحتها مؤشر تبدل عميق في الأزمة البترولية. وإن زيادة الأسعار تشبه ارتفاع الحرارة في حمى مزمنة، وهي سوف لن تتراجع وسوف تؤكدها السنوات المقبلة، وإنها سوف تترك آثارها على الاقتصاد العالمي، أي هي خير للعرب من جهة، ولكنها -في نظرهم- سم للنمو الاقتصادي؟ ومن مراجعة مخطط بسيط في مجلة المرآة الألمانية (22/04)، نرى أثر زيادة الأسعار على النمو في ألمانيا، فكل كساد سبق بصدمة بترولية. ومن الملفت للنظر أن سعر البرميل كان عام 1970م 1.8 دولارا؟! ليقفز عام 1973م فوق 12 دولارا وتصاب ألمانيا بصدمة تراجع في النمو تحت خط السواء إلى ناقص 1,4 في المائة عام 1975، ليتكرر هذا الأمر عامي 1980 و2003 فيتراجع على التوالي إلى ناقص 1 في المائة 0,1 في المائة، فضلا عن أرقام البترول الحالية وأزمة اليورو المزمنة، مما يهدد بتفكك الاتحاد الأوربي. وهناك سؤال مهم وهو: من يحدد احتياطي النفط؟ وبأي طريقة؟ والجواب إن هذا عالم وعلم قائم بذاته ويشبه (السحر الأسود للذهب الأسود؟). توجد في أمريكا وكالة اسمها «الأمن والتبديل» يرمز إليها بSEC)) تضع تعريفا للاحتياطي البترولي المؤكد (المثبت) فتقول: إنه يجب أن ينتج بطريقة متعارف عليها وتقنية معلومة، ويجب على الجهة التي تزمع القيام بالتنقيب أن تتقدم بخطة استثمار على أن لا تتقيد بمسألة الوقت. وهو، كما نرى، كلام مطاط مبهم، مما جعل المسؤول في شركة (BP) البترولية الأوربية يضحك من هذا التعريف ويقول، كما نقول في المثل العربي: «كلام الجرايا ما زبط في السرايا»، عندما تكلم القرويون في القرية بين بعضهم عما يفعلونه إذا دخلوا سرايا الحكومة، فلما وصلوا إلى العاصمة اختلفت الحسبة. وهي نفس القصة مع الاحتياطي البترولي في العالم، فهو من عالم السحر عند ملك الجان الأزرق. والسؤال: هل البترول نعمة أم لعنة؟