كرم نعمة وضع الكاتب البريطاني سايمون جنكينز «تصورا» لمرحلة ما بعد الرقمية دون أن يلغي قيم القراءة التقليدية وطقوس زيارة المتاحف ودور العرض والمكتبات. وأشار في مقال تحليلي في صحيفة «غارديان» أن العصر ما بعد الرقمي سيكون بمثابة معادل تاريخي لأزمنة الراديو والتلفزيون والفاكس والصحيفة الورقية وبعدها الالكترونية، دون أن يقلل من مستقبل قيم القراءة الشائعة والاستماع والمشاهدة الحية للحفلات الموسيقية والغنائية. ووصف جنكينز، رئيس الاتحاد الوطني البريطاني والحاصل على وسام تقدير في مجال الصحافة عام 4002، تلاشي الصحف الورقية لحساب الالكترونية بالأمر المثير للسخرية. وطالب جنكينز، الذي سبق أن أصدر مجموعة من المؤلفات، التي تعالج الهندسة المعمارية والصحافة والسياسة، بعدم الوقوع في خطأ إلغاء القديم من أجل التجربة الحية التي يبثها العصر الرقمي. وضرب مثلا عن تراجع أرباح تسويق الأسطوانات الموسيقية خلال السنوات العشر الأخيرة، فيما لم تتأثر الحفلات الموسيقية الحية، «فقد أغلقت في بريطانيا مثلا 04 متجراً لبيع الأسطوانات الموسيقية، في حين تباع تذاكر حفلات ريهانة بسعر 033 جنيهاً إسترلينيا، والحصول على مقعد في حفل لمادونا يعادل ثمن شراء كل أسطواناتها الموسيقية». ويشكل الأداء الحي للحفلات الموسيقية نسبة 08 إلى 09 في المائة من عائدات التسجيلات المباعة على الإنترنت. وقاد عدد من المشاهير تجمعات أسبوعية لتشجيع القراءة في الأماكن العامة بمشاركة قراء من مختلف الأعمار، فيما تضاعف جمهور دور السينما والأوبرا والمتاحف. وفي إشارة إلى دور التفاعل الحي بين السياسيين والجمهور، أثار سايمون جنكينز تدافع السياسيين على اللقاءات المباشرة والندوات وجهاً لوجه وتفضيلها على ندوات التلفزيون، مؤكدا أن مثل هذه اللقاءات لم تكن شائعة بالقدر نفسه قبل عشرين عاماً. كما أشار إلى أن تصاعد جمهور المتاحف والصالات الفنية كما يحدث في متحف اللوفر والمتروبوليتان في نيويورك يمكن أن يعوض عن نسب القراءة المتواضعة في المهرجانات الأدبية وانحسار القراءات الشعرية. وتوصل جنكينز إلى أن أحد أسباب هذه العودة يعود إلى الملل والفرار من شاشة الكمبيوتر والتلفزيون مساء إلى أجواء طبيعية وفي عطلات نهاية الأسبوع. واستشهد بتفسيرات علمية تشير إلى أن التطبيقات الالكترونية للكمبيوتر تساهم في إبطاء النمو الطبيعي للدماغ، وأن الإدمان على الإنترنت يضعف التجربة العقلية في تدرجها، فيما يسعى الإنسان بطبعه إلى الرقي بذاته وعدم الوقع أسيرا في واقع افتراضي. وأكد أن بعض مدارس ولاية كاليفورنيا الأمريكية منعت استخدام الكمبيوتر أصلا فيها، والطريف أن المدراء الكبار في شركات غوغل وياهو وأبل يرسلون أبناءهم إلى تلك المدارس حيث يستخدم الطباشير والسبورة والورق والقلم، إثر دراسة أكدت أن أجهزة الكمبيوتر تحول دون التفكير الإبداعي والحركة والتفاعل الإنساني. إن ما يريد أن يوضحه جينكنز هو أن من تعلم بالطباشير والقلم وكتب على اللوح الخشب والورق هو من أقام صَرْح التقنيات التي نعيشها اليوم، أي أن الإنجاز بشقيه الثقافي والتقني ينبغي أن يمر من بوابة التعليم الحقيقي والمتفاعل وليس فقط من خلال شاشة الكمبيوتر. وتوصل الكاتب، الذي يكتب عمودين أسبوعيا في صحيفتي «غارديان» اليومية و«إيفنينغ ستاندر» المسائية، إلى أن العصر مابعد الرقمي لن يجعل من شبكة الإنترنت مقصدا في حد ذاتها، ولكنها ستكون خارطة طريق إليه. وأضاف «كلما ازدهرت فرص التعامل الجماعي كلما خف الشعور بالوحدة، وهذا لا يقدمه الجلوس الدائم أمام شاشة الكمبيوتر». كما أوضح أن الرسائل النصية الهاتفية تمثل نافذة على العالم وليس باباً.واختتم مقاله «لست من أعداء التكنولوجيا، فالإنترنت يعد أكبر مكافأة مبتكرة في حياة الإنسان، إلا أن العودة إلى الكياسة تبدو مبهجة، ولن أقبل بالقول إن الإنترنت سيدفع بأدمغتنا إلى الهرولة، بل هو يخسرنا فرصة القدرة على قراءة جمل طويلة أو التعامل مع المعلومات المعقدة للغاية، والكثير من التحديق في الشاشات تكون سيئة للعينين وللظهر». ويأتي مقال سايمون جنكينز بعد أن حذر كاتب متخصص في الثقافة الرقمية من قيام الإنترنت بتدمير صناعة الثقافة عبر القرصنة الرقمية وتفاقم جشع الشركات الإلكترونية وسحق النتاج الموسيقي والسينمائي والصحفي. وأشار الكاتب روبرت ليفين في مقال نشرته صحيفة «غارديان» بعنوان «كيف دمر الإنترنت سوق الأفلام والموسيقى والصحافة» إلى أن كبرى الشركات الأمريكية لإنتاج المحتوى الموسيقي والسينمائي فقدت مواردها لحساب القرصنة المتصاعدة في الإنترنت. وأضاف ليفين مؤلف كتاب «رحلة بالمجان: كيف دمر الإنترنت صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع»، الذي صدرت طبعته الأمريكية تحت عنوان «رحلة بالمجان: كيف دمرت الطفيليات الرقمية صناعة الثقافة وكيف يمكن لصناعة الثقافة الدفاع» أنه كل الذي كان يباع صار مجانا، سواء بشكل مباشر أو عبر القرصنة الالكترونية.