يوم أمس نشرت أسبوعية ال«أوبزرفر» البريطانية تقريرا من طراز خاصّ ونادر في الصحافة اليومية، عنوانه «وجها لوجه مع رادوفان كراجيتش»، وقّعه الصحافي البريطاني اللامع إد فليامي، ويروي وقائع لقاءين مع الزعيم الصربي السابق ومجرم الحرب المتورّط مباشرة في هندسة وتنفيذ مجازر عديدة، أشهرها تلك التي وقعت في سريبرنيتشا. اللقاء الأوّل جرى داخل زنزانة كراجيتش، والثاني خلال إحدى الجلسات أمام المحكمة الخاصة بجرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة. الطريف، هنا، أن كراجيتش هو الذي استدعى فليامي بصفة شاهد، إذ ينتظر أن تكون الشهادة لصالحه في نهاية المطاف، وستساعد على تبرئته! تلك حال سوريالية، كما يصفها فليامي نفسه، محقا بالطبع، لأن هذا الصحافي الشجاع كان أبرز، وبين أوائل، الذين سلطوا الأضواء على معسكر أومارسكا من داخله، وذلك في تقرير شهير نشرته ال»غارديان» البريطانية بتاريخ 7/8/1992، بعنوان «عار معسكر أومارسكا». آنذاك، كتب فليامي أن هذا المكان (الذي لا يبعد إلا قليلا عن مرابع فينيسا الإيطالية!) «واحد من أكثر معسكرات الاعتقال جهنمية في زماننا. إنه المكان الذي يصبح فيه القتل والقسوة وشعائر الإذلال شكلا من أشكال التسلية الشائهة. الحرّاس سكارى أغلب الأوقات، يغنون وهم يعذبون. يضربون الأسرى ويشوّهونهم ويذبحونهم». ويتابع فليامي: «ثمة تلك الشهوة العارمة لإجبار السجينات على ممارسة الجنس عن طريق الفم، وإجبار السجناء على مضاجعة الحيوانات، وتشويه الأعضاء الجنسية. أحد السجناء أُجبر على عضّ خصيتَيْ سجين آخر، كان قد مات عندما حُشرت حمامة في فمه لكتم صرخاته. وفي نهاية حفلات العنف الجماعية هذه والتي كانت تجري في ساحة ضيّقة أو في مبنيَين ملحقَين بالمعسكر، يُدعى الأوّل البيت الأبيض والثاني البيت الأحمر يُجبر أصدقاء الموتى على تحميل جثث أصدقائهم، التي انقلبت إلى جِيَف في الواقع، في شاحنات أو تكديسهم باستخدام البلدوزر»... فيما بعد، سوف تتكشف فظائع أخرى، وستستمع محكمة لاهاي إلى شهادات من النوع التالي: يقترب جندي صربي من امرأة مسلمة ويسألها لماذا يبكي طفلها؟ وتردّ المرأة: إنه جائع يا سيدي. وبضربة واحدة بارعة من حربته الحادّة يذبح الصربي الطفل ويقول: انتهت المشكلة. إنه الآن غير جائع. جندي آخر يستشيط غيظا لأن الأم تعرضت لإغماء فوري وتهاوت أرضا، فيهدد بإجبارها على أكل أمعاء الطفل إذا لم تنهض واقفة خلال دقيقة واحدة. بعد قليل، يصل الجنرال راتكو ملاديش إلى مدينة سريبرنيتشا «المحررة» لتوّها من أيدي المسلمين، ويلقي خطابا في جنوده وفي آلاف المسلمين الذين سيُقادون إلى المذبحة الجماعية أو التهجير القسري. يستعيد ذكرى عصيان صربي ضد الأتراك العثمانيين وقع قبل قرن كامل، ويقول: «ها قد عادت سريبرنيتشا صربية، واليوم اكتمل ثأرنا ضدّ الله Allah». وفي صيف 2008، عاد فليامي بالذاكرة إلى المواطن البوسني المسلم فكرت عليتش، الذي تصدّر صورة شهيرة نشرتها وكالة «رويترز» سنة 1992، سرعان ما شاعت في أربع رياح الأرض، وصار صاحبها شهيرا بين ليلة وضحاها، لأنه انقلب إلى تجسيد بليغ، ولكنه رهيب تماما، للفظائع والمجازر وجرائم الحرب التي تعرّض لها أهل البوسنة على يد الصرب. كان فكرت يقف خلف الأسلاك الشائكة، في معسكر اعتقال ترنوبولي، عاري الصدر، وأضلاعه النافرة تكاد تشقّ ما تبقى من جلد على عظام جسده الهزيل، الأقرب إلى هيكل عظمي شاخص. بعد 16 سنة بدا عليتش وقد استردّ بعض مظاهر إنسانيته، ولكنه ما يزال ينتظر مَن يقول له: إغفرْ لنا! صحيح أن كرادجيتش، صاحب الأمر بتنفيذ غالبية الأهوال ضدّ مسلمي البوسنة، صار اليوم خلف القضبان؛ ولكن أي عزاء لضحية مثل عليتش إذا كان مصير 3205 من مواطني البوسنة ما يزال قيد المجهول حتى اليوم، في مدافن جماعية مجهولة على الأرجح، وذلك رغم كلّ ما نُبش منها حتى الآن؟ وفي لاهاي، أثناء جلسة المحاكمة، لم يتردد كراجيتش في «إحراج» فليامي حين سأله: هل تعتقد أنك كنت موضوعيا في مهنتك الصحافية؟ فلم يتردد الصحافي، بدوره، حين ميّز بين الموضوعية والحياد، وأجاب: محال عليّ أن أكون محايدا بين القاتل والقتيل، بين المغتصِب والمغتصَبة، وبين حرّاس المعسكر وسجنائه! ورغم جوانبها السوريالية، التي كان أحدثها استدعاء فليامي لكي يشهد لصالح الجلاد ضدّ الضحية، فإنّ محاكمة كراجيتش تذكر أن جرائم حرب مماثلة ما تزال تُرتكب هنا وهناك في العالم المعاصر، لعلّ أبشعها اليوم ما تقترفه أجهزة النظام السوري من فظائع، فردية أو جماعية، فيها الاعتقال التعسفي والخطف والتعذيب والاغتصاب والتصفية الجسدية والتمثيل بالجثث، وفيها ألوان جديدة من التنكيل هي الأبشع على امتداد تاريخ الإنسانية. كذلك، فإن شهود الزور عليها كثر، عراة من كل ضمير، نبّاحون خلف الذئاب، كذبة ومنافقون ومتواطئون وشركاء، يدّعون التباكي على سورية فلا تختلط دموعهم الزائفة إلا بدماء السوريين، يزعمون «الموضوعية» و«الوطنية» و«الممانعة» فيستبقون النظام ذاته في ما لا يتجاسر على إعلانه: نعي الانتفاضة. ويبقى، بالطبع، ذلك الدرس العتيق العريق الذي حفظه التاريخ للطغاة ومجرمي الحرب: أين المفرّ؟ وهل من منجاة، طال الزمان أم قصر؟