بخروج حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية إلى المعارضة يكون قد أطلق رصاصة الرحمة على «الكتلة الديمقراطية». ظل هذا النادي الحزبي الذي تشكل في بداية التسعينيات من القرن الماضي عاطلا منذ المصادقة على دستور 1996، لكن قواعد المجاملة أملت على مؤسسيه أن يبقوه قائما، لا هم يحلُّونه ولا هم يحوِّلونه إلى كتلة قوية ومستقرة، لديها مما هو مشترك ما يمنعها من الحلّّ. ورغم عطالة هذا النادي الحزبي، فإنه كان يوفر نوعا من القاعدة الخلفية التي تتم العودة إليها بين الحين والآخر للتذكير به كورقة سياسية يمكن توظيفها، سواء في مواجهة الدولة إذا استدعت الضرورة ذلك، وهذا ما لاحظناه -مثلا- لدى الحديث عن الإصلاحات الدستورية في السنوات الثلاث الأخيرة بالرغم من أن الكتلة أخفقت في وضع مذكرة مشتركة حول تلك الإصلاحات، أو في مواجهة أي تكتل حزبي آخر يمكن أن يحصل، وهو ما لاحظه الجميع عندما ولد تحالف الأحزاب الثمانية قبيل الانتخابات الأخيرة عندما عادت أحزاب الكتلة إلى عقد الاجتماعات من أجل التنسيق بينها دون جدوى. تفكك الكتلة الديمقراطية اليوم على صخرة المفاوضات التي يقودها عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة الجديد، واحد من المداخل الممكنة التي كان لا بد منها في الماضي من أجل إعادة التركيب؛ وربما جاز القول هنا إن الكتلة كانت واحدا من الأسباب التي أعاقت تحقق نوع من الفرز في الخارطة السياسية بالمغرب، فقد كانت تتشكل من توجهين بارزين، لم يكن ممكنا تحقيق التعايش بينهما على الدوام: التوجه المحافظ الذي يمثله حزب الاستقلال الذي لا يزال يجر وراءه «تعادلية» علال الفاسي دون أن يحافظ عليها، وتوجه اشتراكي اجتماعي ممثل في حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية والتقدم والاشتراكية. وما عدا المذكرة الشهيرة حول الإصلاحات السياسية والدستورية التي وجهتها إلى الملك الراحل الحسن الثاني عام 1992، فإن الكتلة الديمقراطية لم تنجح بعد ذلك في اتخاذ أي مبادرة مشتركة ذات وزن، دون أن ننسى أن الانسجام داخلها كان معدوما حتى في ذلك الوقت، وقد برز ذلك على وجه الخصوص في طبيعة التعامل مع طريقة تجاوب القصر مع المذكرة المشار إليها، حيث رفضت منظمة العمل الديمقراطي الشعبي آنذاك التعامل مع العرض الملكي الممثل في دستور 1996 وبقيت تغرد خارج السرب إلى أن تدخلت أياد خارجية لتفكيكها في عهد الوزير الأسبق في الداخلية ادريس البصري، بينما بقيت مكونات الكتلة الأخرى تتابع المشهد من بعيد. أصبح هذا جزءا من التاريخ السياسي للمغرب اليوم. وعندما يقرر الاتحاد الاشتراكي الآن العودة إلى المعارضة واستعادة خطاب الشارع، فلا بد أنه ينظر إلى أبعد من تلك المرحلة ويسعى إلى استرجاع هويته الإيديولوجية التي ترك جزءا منها في الكتلة الديمقراطية وترك جزءها الآخر في حكومة التناوب التوافقي عام 1998. وإذا نجح الحزب في إعادة تجميع عناصر هويته الإيديولوجية بخلق تقاطب يساري، فسيكون قد أفلح في تحقيق شطر من الفوز؛ لكن المشكلة توجد في استرجاع الجزء المفقود الذي ذاب في حكومة التناوب. يقال إن المغالطات جزء من العمل السياسي، ولذلك فإن الاتحاد الاشتراكي يعتقد أن خطاب المعارضة بالنسبة إليه ما زال خيارا ممكنا بنفس الأسلوب الذي حصل في الماضي حتى وهو يسحب خلفه تركة ثقيلة هي تركة حكومة التناوب والحكومات اللاحقة؛ والحال أن أزيد من عقد من الزمن منذ حكومة التناوب قد حصلت خلاله العديد من التطورات في المغرب، كما أن الحزب نفسه تغير طيلة هذه المدة، وصورة «الطبقات الشعبية» تراجعت كثيرا إلى الخلف أمام صورة أخرى بات الحزب يقدمها عن نفسه سواء رغب في ذلك أو لا، بحكم الواقع، كما تغير وعي الطبقة الاجتماعية التي كان الحزب يراهن عليها في الماضي، وهي الطبقة الوسطى التي تفرقت على ولاءات حزبية عدة بسبب الخيبات التي تلقتها من طرف الحزب؛ ولذلك فإن حلم العودة إلى المعارضة سيكون نوعا من الوهم التاريخي الذي لا يزال يراود الحزب، لأن مشاركته في التدبير الحكومي خلال السنوات الماضية لم تكن بدون ثمن، وفقدان جزء من المصداقية وسط المواطنين هو جزء من هذا الثمن المدفوع، فكما أن حزب العدالة والتنمية لن يظل كما كان خلال السنوات القادمة، فإن حزب الاتحاد الاشتراكي لم يعد هو نفسه الذي كانه في الماضي. فضلا عن هذا، فإن الوضع الحزبي في المغرب لا يساعد الحزب على تموقع جيد في المعارضة، بسبب حالة التشتت في المشهد السياسي والتعددية الحزبية المصطنعة؛ غير أن خروج الاتحاد إلى المعارضة قد يكون في نفس الوقت خطوة أولى على طريق التصحيح من أجل إحداث فرز سياسي واضح في الخريطة الحزبية؛ بيد أن هذا يتوقف على قدرته على تعبئة قوى اليسار في صفه وبناء قطب واضح الهوية في مواجهة قطب آخر يقوده حزبا الاستقلال والعدالة والتنمية. ربما يقول الحزب غدا إنه ضيّع فرصة كانت متاحة لكي يخرج إلى المعارضة من الباب الواسع، عندما انتقد الدولة بسبب عدم احترامها «المنهجية الديمقراطية» أثناء تعيين حكومة إدريس جطو الأولى، وإصداره بيانه الشهير في تلك الفترة. ويظهر أن الحزب وجد ذلك الخيار صعبا آنذاك لأنه كان سيضعه مباشرة في وجه الدولة، أما خروجه اليوم إلى المعارضة فهو يظهر كعملية محسوبة جيدا، ففضلا عن كون هذا الخروج يعفيه من الخصومة مع الدولة، فهو يضعه في مواجهة خصم سياسي تقليدي هو العدالة والتنمية، ولذا فإن حكومة بنكيران ستكون أمام معارضة شرسة تستعمل فيها جميع الأسلحة، لكن المغاربة سيكونون أمام فرجة سياسية جديرة بالمتابعة.