نظمت شعبة اللغة الفرنسية وآدابها في كلية الآداب، التابعة لجامعة المولى إسماعيل في مكناس، ملتقى علمي دولي بعنوان «إدموند عمران المالح: فن، ثقافة وكتابة». وقد استمرت أشغال الملتقى على مدى يومين، وتضمنت عدة مداخلات من ذوي الاختصاص. وقد أملتْ هذا الاختيارَ الطبيعةُ المتنوعة لأعمال إدمون عمران المالح، ولهذا وجهت الدعوة إلى أساتذة جامعيين، كتاب، شعراء وفنانين، من المغرب ومن خارجه، للمساهمة في هذه الندوة بمداخلاتهم وشهاداتهم في حق هذا الكاتب الكبير. تم الاهتمام في الملتقى بعلاقة المالح بالفن، التشكيلي خاصة، نظرا إلى الإسهامات النقدية الكبيرة للمالح في هذا المجال، ثم بالكتابة والأدب المغاربي باللغة الفرنسية، خاصة أن المالح يُشكّل تجربة فريدة في مجال الكتابة، منها دخوله المتأخر إلى المجال، فهو لم يكتب رسميا إلا بعد بلوغه سن الستين، وقد أكسبه هذا الدخول المتأخر نضجا كبيرا في التعاطي مع القضايا الثقافية التي يحفل بها المغرب، خاصة في مقاربته قضايا ذات راهنية، منها العلاقة بين الخصوصية الثقافة والثقافة الكونية، العلاقة بين الثقافة بحمولاتها الأنثروبولوجية والقيميّة، من جهة، والكتابة والفن من جهة ثانية.. كما شكّل المالح وجهة نظر مختلفة لعلاقة الحضارة المغربية بالحضارة الغربية، فهو حاول البحث في المُشترَك الثقافي، الذي يمكن خلقه بالفن والثقافة، لذلك اهتمّ وتخصص في نقد الفن التشكيلي لجيل مغربي رائد، جيل الشرقاوي والغريب وبورقية.. وغيرهم، من منطلق رؤية ما فتئ المالح يُعبّر عنه باستمرار، فالفن ليس مفهوما مجردا.. فهو فلسفة في الحياة، فنعيشه في حياتنا وليس مجرد تصور حالم. إنه يجسد انتماء الفن إلى أسئلة الراهن الثقافي. يجسد إدمون عمران المالح وجهاً آخر لتنوع الثقافة المغربية.. إنه وجه تُزيّنه تقاسيم الاختلاف والتنوع العرقي والديني والمذهبي.. إنه كاتب ومثقف ملتزم بقضايا شعب شكّل التسامح والتعايش إحدى القيّم الراسخة في تاريخه العريق.. فجسد هذه القيّم في كتاباته، الحاملة لواء التحرر والعدالة الاجتماعية والاحتفال اللا مشروط بالإنسان.. ومنها دفاعه المستميت عن القضية الفلسطينية ضد الصهيونية المتغطرسة. عمران المالح ليس من طينة مثقفي اليسار الذين انقلبوا عدميين أو مخزنيين كأيها الناس.. بعد انهيار أطروحات الفكر اليساري، بل إنه من المثقفين القلائل الذين لم يسمحوا لأنفسهم قط بالتنازل عن مبادئهم مهما كانت المبررات.. إذ إن الشرط الموضوعي لاستمرار خطاب النقد والمعارضة لكل نزعات التطرف والتشييء ما ما يزال قائما.. فقد كان يؤمن بالأدوار التاريخية التي يمكن أن يلعبها المثقف في الدفاع عن قيّمه وحضارته ونبذ الإيديولوجيات العنيفة والتصدّي لها بالكتابة. عمران المالح المبدع، هو «الأخ الأكبر الذي يجدّد ذاكرتنا ويخصبها، من خلال نصوصه الجميلة وحضوره الأجمل»، كما كتب عنه الروائي والناقد محمد برادة.. بدأ بإصدار سيرته الذاتيّة، وهي محطّة مهمّة في مسار الأدب المغربي، حيث كان المليح أوّل رمز سياسي يساري يكسر المحظور ويتكلّم بلغة نقديّة متحرّرة، متأثرا بمدرسة فرانكفورت النقدية، خصوصا فالتر بنيامين، والذي تأثر بها (المدرسة) أيما تأثر.. في نقده للأنظمة الكليانية التي ابتليّ بها العالم في القرن العشرين.. واضعة العالم في أزمات أخلاقية ووجودية، قبل أن تكون أزمة حضارة.. لنجده يتجاوز في «المجرى الثابت» قواعد الأدب «الملتزم»، السائد آنذاك، متعاطياً مع الواقع بفانتازيا إبداعيّة يغلب عليها الهمّ الجمالي والمشاغل اللغويّة وتترك للقارئ أن يكون شريكاً في إعادة تشكيل فضاءاته وشخصياته وطقوسه.. فنجده يكسر الحدود بين الأجناس الأدبية.. لنجد في رواياته تحفيزا غير طبيعي للذهن.. حيث الفلسفة والتساؤل والتاريخ.. وشيء مما يمكن أن يدخل في لغة الإشراق العرفاني.. فكتب ضد النسيان، ومن خارج اليقين الإيديولوجي، فكانت رواياته الثلاث الأخرى «أيلان أو ليل الحكي، «ألف عام بيوم واحد»، «عودة أبو الحاكي»، التي جعلت من صاحبها أحدَ أبرز رموز الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية.. إضافة إلى مجموعة قصصيّة متأخرة بعنوان «آبنر أبو النور» وكتابات نقديّة عدة في الفنّ التشكيلي، أبرزها مؤلف مرجعي عن الرائد أحمد الشرقاوي (مع عبد الكبير الخطيبي وتوني ماريني).. وكتاب يحاور فيه نصّ جان جينيه «الأسير العاشق».. خلال سنوات عمره التي أمضاها في فرنسا، لم ينقطع إدمون عمران المالح عن المغرب، بل واكب تحوّلاته السياسيّة والاجتماعيّة وظل على تواصل مع الأجيال الجديدة، ناقلا إليها تجربة غنية قائمة على الجرأة والتجريب وطرح الأسئلة.. من خلال لقاءات أدبية كثيرة، رافضا النقاش الدائر في المشهد الثقافي المغربي عن الحواجز التي يضعها بعض الروائيين والنقاد بين الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية والأدب المغربي المكتوب باللغة العربية، ذلك أن تعدد لغات التعبير، بما في ذلك اللغة الأمازيغية، يُعتبَر عنصرَ إغناء للأدب المغربي لا عنصر تفقير.. يشار إلى أن المالح وُلد سنة 1917 في مدينة آسفي. امتهن تدريس الفلسفة. التحق بالحزب الشيوعي المغربي سنة 1945، اختار فرنسا كمنفى اختياري بعد أحداث 1965 في الدارالبيضاء، ولم يعد إلى المغرب إلا في أواخر التسعينيات. ورغم المنفى، ظلت علاقته قوية بقضايا المغرب وبالحزب الشيوعي المغربي، ليُنتخَب سنة 1984 عضوا في لجنته المركزية، ثم في مكتبه السياسي. وقد اشتهر المالح من خلال نضاله الحزبي ومواقفه الداعمة للحق الفلسطيني. ورغم أنه لم يدخل غمار الكتابة إلا بعد بلوغه الستين، فقد استطاع أن يكتسب تقديرا كبيرا في الأوساط الأدبية المغربية.