تعرف دافيد ماسي على فانون لأول مرة عام 1961 حين قرأ كتاب «معذبو الأرض»، الذي اقتناه من مكتبة ماسبيرو، ناشره الرسمي. في هذه السنة حصلت الجزائر على استقلالها. كان الكتاب معروضا على واجهة المكتبة. لكن الشرطة نزلت لحجزه بحجة أنه كتاب مشاغب. اليوم، اختفت المكتبة التي كانت تحمل اسم La joie de lire. كما أنه من الصعب الحصول على النسخة الأولى من الكتاب، التي كانت نسخة أنيقة وبحجم صغير. كان المناخ السائد آنذاك مناخا يتراوح بين التشكيك ورغبة معاقبة كل ما يمت إلى حرب الجزائر بصلة، بل إلى غاية السبعينيات، كانت حرب الجزائر من طابوهات الدولة الفرنسية. تشبعت أجيال عديدة بدروس، بل بتعاليم كتاب «معذبو الأرض» لفرانز فانون، الذي جاء كتكملة لما طرحته من قبل بعض النظريات الماركسية أو العالمثالثية من ضرورة قلب موازين القوى الطبقية والاجتماعية. وبعد عدة سنوات من التهميش والإهمال، يعود صاحب «جلد أسود، أقنعة بيضاء» ليشغل الواجهة على خلفية حركة «الساخطين»، التي يعد إلى جانب ستيفين هيسيل، أحد المساهمين غير المباشرين في انبثاقها. وتوفر مناسبة خمسينية وفاته فرصة مثالية للوقوف مرة أخرى على نضاله السياسي ونتاجه الفكري. وهو البرنامج الذي أعدته بهذه المناسبة أكثر من مؤسسة في فرنسا، ولا ندري إن طرحت السلطات الجزائرية برنامجا للاحتفاء بأحد أعلامها الثوار أم ستتجاهله مثلما تجاهلته في احتفالية العشرين عاما على رحيله. ستعقد إذن مجموعة ندوات وتنشط حلقات تلفزيونية وتعرض أفلام سينمائية عن مساره، كما ستصدر أعماله الكاملة عن منشورات لاديكوفيرت (دار ماسبيرو سابقا)، التي كانت أول دار تنشر كتابه «معذبو الأرض». حدث سياسي وفكري مميز، على اعتبار أن فرانز فانون من عينة المثقفين والمناضلين السود، أمثال ليوبولد سيدار سينغور، إيمي سيزير، مالكوم إيكس، باتريس لومومبا...الذين تركوا أثرا قويا في زمانهم. كما أن جيلا بأكمله نهل من مرجعيته النضالية والفكرية. ويعتبر الباحث البريطاني دافيد ماسي، من مواليد 1949، وهو بروفيسور شرفي لعلم الترجمة بجامعة نوثنغام، من المتخصصين في نتاج فانون والمتابعين بشكل علمي ونقدي دقيق لمساره. وتعد السيرة التي أنجزها عنه، والصادرة مؤخرا عن منشورات لاديكوفيرت من أدق ما كتب عنه. تعرف دافيد ماسي على فانون لأول مرة عام 1961 حين قرأ كتاب «معذبو الأرض»، الذي اقتناه من مكتبة ماسبيرو، ناشره الرسمي. في هذه السنة حصلت الجزائر على استقلالها. كان الكتاب معروضا على واجهة المكتبة. لكن الشرطة نزلت لحجزه بحجة أنه كتاب مشاغب. اليوم، اختفت المكتبة التي كانت تحمل اسم La joie de lire. كما أنه من الصعب الحصول على النسخة الأولى من الكتاب، التي كانت نسخة أنيقة وبحجم صغير. كان المناخ السائد آنذاك مناخا يتراوح بين التشكيك ورغبة معاقبة كل ما يمت إلى حرب الجزائر بصلة، بل إلى غاية السبعينيات، كانت حرب الجزائر من طابوهات الدولة الفرنسية. وخير دليل، فيلم «معركة الجزائر» للمخرج جيلو بونتيكورفو، الذي كان من المستحيل مشاهدته في قاعة سينمائية، بعد التهديدات التي تلقاها ثلاثة من أرباب السينما. ولم يعترف بحرب الجزائر إلا بعد 30 عاما من وقوعها. من علامات هذا الصمت المتواطئ أن أحدا لم يأت على ذكر الوقائع الدامية التي شهدتها باريس في 17 من أكتوبر 1961، لما أطلق بوليس موريس بابون النار على المتظاهرين الجزائريين، الذين حصر عددهم رسميا في ثلاثة أشخاص، فيما تجاوز العدد الحقيقي المائة. وقعت هذه الأحداث قبل شهرين على وفاة فرانز فانون. فيما بعد، غيبت، بل «طمست» ثورة ماي 68 في الذاكرة الجماعية، ثورة أخرى قادها جيل في العشرين من عمره، جيل ناضل في حرب من دون اسم، جيل رفض الانخراط في صفوف الجيش الفرنسي أو هرب من الخدمة العسكرية. أغلب أولئك الذين رفضوا القيام بالخدمة العسكرية، والذين شكلوا مجموعة سند ومساعدة لجبهة التحرير، تأثروا بأفكار فرانز فانون، الأخصائي النفساني الذي استقال من منصبه بالجزائر للالتحاق بصفوف جبهة التحرير الجزائرية ودعا إلى حمل السلاح. فانون بين النسيان والتذكر عند بداية 1962 حل صحافي بجريدة «لوموند» ببلدة غرديماو الواقعة على بعد بضعة كيلومترات من الحدود الجزائرية. كانت البلدة في السابق قاعدة عسكرية فرنسية، لكنها احتضنت بعد استقلال تونس جيش التحرير الجزائري. كان الوضع جد متوتر. أثبتت على الحائط صورتان لكل من فيدال كاسترو فرانز فانون. في أواخر يونيو، حل صحافي آخر هو جان-فرانسوا كان لكتابة تحقيق عن الوضع ممثلا لصحيفة «باري-بريس»، فلاحظ بدوره صورة فانون على الحائط. كانت حرب الجزائر توشك على نهايتها، بعد أن تم التوقيع على معاهدة إيفيان والاتفاق على وقف إطلاق النار. كانت العلاقات بين «قوات الداخل» و«قوات الخارج» الجزائرية جد متوترة. كان جان-فرانسوا كان على يقين بأن الهواري بومدين، الرئيس السابق لأركان جيش التحرير، يهيئ لمحاولة انقلابية ضد بنبلة. تناسلت الأحداث بسرعة ودخل بومدين العاصمة بقوة، لكن المحاولة الانقلابية لم تتم إلا عام 1965 ليبقى بومدين على رأس السلطة إلى وفاته في ديسمبر 1978 . أما بنبلة فأقفل عليه في السجن إلى غاية 30 أكتوبر 1980 ليقضي فيما بعد عامين بالمنفى ويعود إلى الجزائر. وفي جولته، لاحظ الصحافي الفرنسي أن الجنود كانوا يرتدون بذلات صينية ويتحدثون باللغة الفرنسية دون غيرها وعلى استعداد لتصفية كل من حاول اعتراض طريقهم. في الأخير خلص جان-فرانسوا كان في المقال الذي كتبه إلى أن هؤلاء «الجنود المتصوفة» مشبعين بالأيديولوجية «الفانونية» (نسبة إلى فانون)، وقد قاموا بالفعل فيما بعد بالتخلص من معارضيهم بحد السلاح. إذ لما دخلت دبابات بومدين إلى الجزائر العاصمة تركت وراءها الكثير من الجثث. وقد أشار فرحات عباس فيما بعد إلى أن جنود بومدين لم يخوضوا سوى حرب واحدة، هي حرب تصفية خصومهم! وعلى هدي الملاحظة التي أدلى بها جان-فرانسوا كان، شاعت عن فرانز فانون فكرة أنه «نبي العنف»، العنف الصوفي، «نبي ثورة عنيفة ستهز العالم الثالث». ثورة قد تكون أخطر بكثير من الشيوعية على مصالح الغرب. كان فارس خراب جديد، نبي معذبي الأرض، الذين يثورون في وجوه مستغليهم. لكن دافيد ماسي سيخفف من مغالاة هذا التصور الراديكالي، مشيرا إلى أن فانون، الذي كان يدافع عن استعمال العنف، والذي كان يحتضر بعيدا عن الجزائر، هو نتاج لحرب نزع الاستعمار، أشرس حرب قادتها فرنسا. لذا يبقى فرانز فانون رجلا بأوجه عديدة، رجلا من الصعب اختزاله في صورة نمطية. دفن فانون بأرض الجزائر على بعد بضعة كيلومترات من الحدود التونسية، بعد أن منعت القوات الفرنسية نقل جثمانه مسافة أبعد من ذلك. لكنه في 25 من يونيو من عام 1965 نقل جثمانه من جديد إلى مقبرة الشهداء بعين الكرمة. ولم تستجب السلطات الجزائرية للطلبات التي تقدمت بها عائلته لإعادة دفنه بالمارتينيك. بعد انتحار والدته في 13 من يوليوز 1989 (الذي يقال إنه تم بسبب فشل الثورة الجزائرية بسطوة العسكر على السلطة) طالب أوليفييه فانون بوضع رفات والده إلى جانب قبر والدته التي يحمل قبرها اسم نادية، بالعاصمة الجزائر. لكن سكان عين الكرمة رفضوا نقله إلى الجزائر بحجة أنه شهيدهم، وبأن قبره مقدس. وإلى اليوم، لا يزال فانون يرقد بشرق الجزائر. بمدينته الأصل، فور دو-فرانس، نصب تمثال لتخليد ذكراه بمقبرة لالوفيه، وهي المقبرة المخصصة لدفن الأعيان، كما يطلق عليها أيضا مقبرة «الأثرياء». لم يتحول القبر إلى مزار. أما الفقراء فيتم دفنهم بمقبرة طرابود، الواقعة في أحد التلال المطلة على المدينة. فانون على الهامش بعد 50 عاما على وفاته، يبقى فانون وجها غريبا ومبعثا للحيرة. لا نعرف هل هو مارتينيكي أم جزائري أم فرنسي أم هو «أسود». لم يجب بدوره عن هذا السؤال. وبعد أربع سنوات على موته كتب فرانسوا بوندي أن «الأشخاص الذين يسيرون الجزائر اليوم لم تكن لهم أي مصلحة للاعتراف به». ورغم التطمينات التي قدمها كريم بلقاسم بأن الجزائر لن تنساه، فإن فانون لم يصبح يوما ما من أعلام الوطنيين الجزائريين، حتى وإن منحته الدولة بعد وفاته عام 1963 الجائزة الوطنية للآداب الجزائرية، حتى وإن وزعت عام 1964 نسخا من كتابه «معذبو الأرض» على التلاميذ. وفيما تتضمن كتب التاريخ صور وسير بعض الأعلام من الأبطال، لم تقم السلطات بأي مجهود لتخليد الذكرى العشرين لوفاته. وبالنسبة لشباب الجزائر، لا يعدو فانون كونه مجرد اسم على واجهة بعض المؤسسات، وحتى إن تذكره البعض فإن ذكراه تبقى مغلفة بالنسيان. تشير فاني كولونا التي كانت أستاذة بجامعة تيزي أوزو، قبل أن تغادر الجزائر بسبب عنف التسعينيات، إلى أن ثمة طلبة درسوا فانون في مادة الأدب الفرنسي، لكنهم يجهلون أنه أسود. التغييب النسبي لفرانز فانون مرده إلى أسباب أيديولوجية وسياسية. الفكرة القائلة بأن بطل الثورة هو الشعب كانت في الواقع بغرض تقليل الدور الذي لعبه الأفراد، مع إخفاء الصراعات الداخلية، بل حجبها، وراء قناع الوحدة والتضامن. التاريخ الحربي الجزائري يبقى تاريخا أحاديا. جاءت بعض الدراسات والأبحاث لاحقا لتبين أن جبهة التحرير لم تتردد في تصفية بعض أبطالها. كما أن طبيعة الإيديولوجية الوطنية الجزائرية تقاوم أي اعتراف بالدور الذي قام به فانون. كما أشار البعض، دون مواربة، إلى أن «الفانونية» غريبة عن الإسلام، وأن فانون لا يمكنه أن يكون جزائريا لأنه ليس مسلما. وقد سبق لمحمد الميلي، الحاصل على دبلوم بجامعة الأزهر بالقاهرة ومدير الأخبار بوزارة الإعلام الجزائرية، أن أدلى بتصريحات في هذا الاتجاه. ورغم أنه عمل إلى جنب فانون بجريدة «المجاهد»، لم يتردد الميلي في القول بأن فانون مدين للثورة الجزائرية أكثر مما هي مدينة له. وقد باءت جميع المحاولات، التي سعت إلى إظهار أن فانون من بين «الشخصيات الرئيسية لجبهة التحرير»، أو أحد المنظرين للكفاح الجزائري، بالفشل. في التشخيص الذي قام به فرحات عباس لحرب الاستقلال، لم يخصص حيزا يذكر لفرانز فانون، لا على المستوى السياسي ولا على المستوى التنظيمي، على الرغم من أنهما كانا على علاقة صداقة دائمة. ورغم أن فانون كان سفيرا متنقلا باسم الحكومة المؤقتة، فلم تكن له أي سلطة تذكر. إذ لم يكن بحوزته جواز سفر ديبلوماسي، بل كان يتنقل بحصوله في كل أسفاره على تأشيرة. في هذه الدراسة خلّص دافيد ماسي فرانز فانون من هالة الأسطورية التي قدمته كأيقونة عالم- ثالثية أو كبطل من أبطال الدراسات «الما بعد الكولونيالية»، وسعى إلى وضعه في زمانه دون تغييب تناقضات هذه الشخصية التي ورطت مسارها في الطب النفسي وفي الثورة.
البوليس دوما بالمرصاد بعد خمود شرارة ماي 68 بقيت الشرطة رابضة بزنقة سان سيفران، مقر الناشر فرانسوا ماسبيرو. لم يكن ضروريا أن تكون أسود أو متحدرا من شمال إفريقيا لتشملك كماشة البوليس. في السبعينيات، هيمنت حرب الفيتنام على النقاش السياسي. كانت هناك شبه قرابة بين جيل الفيتنام وجيل الجزائر. في هذا المناخ النضالي نشأ دافيد ماسي وفي أجوائه قرأ كتاب «معذبو الأرض». أقسم فانون بإشعال النار في إفريقيا، لكن الحريق كان مشتعلا منذ مدة في هذه القارة، التي كانت فريسة لحروب كولونيالية شرسة في المستعمرات البرتغالية، في روديسيا التي ستصبح فيما بعد زيمبابوي، وفي إفريقيا الجنوبية. كانت مكتبة la joie de lire بزنقة سان سيفران بباريس المرجع الثوري، الذي يوفر الوثائق الضرورية لمقاربة الوجوه الثورية الفاعلة في تلك الحقبة أمثال تشي غيفارا، ماوتسي تونغ، هوشي منه، أميركال كابرال... ولم يكن فرانز فانون غريبا عن هذه الكوكبة، إذ حقق الإجماع حول شخصه ونضاله لينال قلب وفكر السود والبيض على حد سواء. لكن تخمينات فانون الثورية لم تكن دائما صائبة. الدليل هو التوجه السياسي الذي انخرطت فيه الثورة الجزائرية باستيلاء العسكر وجبهة التحرير على السلطة ثم دخول البلاد لاحقا في حرب أهلية أودت بحياة الآلاف من الأبرياء. قراءة ودراسة حرب التحرير الجزائرية معناه الغوص في البشاعة. تتضاعف هذه البشاعة لما نقرأ هذا التاريخ في إطار الحرب الأهلية لسنوات التسعينيات. في فرنسا، لا زالت هذه الحرب مصدرا للتشكيك والحذر. وقد أدى فانون ثمن مواقفه، ليس فقط في أوساط البيض، بل في أوساط السود الذين لم يغفروا له فضحه وتعريته لمسلسل الاستلاب اللاواعي الذي انغمسوا فيه، عبراستنساخهم للبيض. وقد نجح فانون في تحليل هذه العلاقة بشكل دقيق ومرهف، الشيء الذي يفسر عدم الاهتمام به وعدم دراسته في فرنسا وفي ليزانتي، خلافا للدول الأنغلوساكسونية التي يحظى فيها بعناية فائقة.