من المنطلقات التي تميز الفكر الإنساني في بعده الكوني كونَ البحث عن المعنى يشكل الأساس الأنطولوجي الذي يؤطر المعرفة والسلوك؛ ويترتب على هذا أن المقتضيات المعرفية الملازمة للأرضية الأنطولوجية التي يقف عليها الإبداع الإنساني في الوجود لا بد أن تكون آلياتها الابستمولوجية غير مفرغة من حمولتها الإنسانية والقيمية.. وإذا كانت البنيوية في بعدها العلموي قد أغفلت المكون الأنطولوجي في الاجتماع الإنساني مما جعل رولان بارت يصل إلى إعلان «موت المؤلف» كتعبيرٍ مرٍّ عن تغييب للذات الإنسانية في إنتاج معرفة مرتبطة جدليا بمكون الوجود، فإننا نجد التأويلية قد حاولت-رغم مآزقها المنهجية- أن تعيد الذات إلى مسرح الوجود الإنساني.. لقد بدا هذا الخط واضحا منذ أعمال هايدجر وشلايرماخر وكادامير، وتبلور بالخصوص في أعمال الفيلسوف بول ريكور.. هذا الأخير الذي «لا يفصل بين الفكر والعمل فصلا ثنائيا، ذلك أن الفعل الإنساني مختلط في صميميته بالتخيل والتمثل، بمعنى أنه لا يمكننا أن نفهم كيف يمكن للحياة الواقعية أن تنتج من ذاتها صورة ما إذا لم تفترض في بنية الفعل ذاته وسطا رمزيا يتحدد من خلاله وعينا بوجودنا الاجتماعي، وهو ما تؤكده سوسيولوجيا الثقافة حين تبين أنه لا يمكن لمجتمع ما أن يشتغل دون قواعد ودون جهاز رمزي واجتماعي.» (حسن بن حسن: النظرية التأويلية عند ريكور، منشورات عيون، 1992، ص24). ونشير هنا إلى دعوة بول ريكور إلى ضرورة تأول مفهوم التاريخية المرتبطة بالواقعة الدينية تأولا يسمح بالتناغم مع العقلي المتعالي، وقد نحث ريكور بذلك سؤالا أصيلا كان قد بدأ طرحه إيمانويل كانط في تأويليته للدين، وهو كيف يمكن أن نعيد تأويل الدين «تأويلا عقليا» يتيح نوعا من التناغم بين الديني والتاريخي والمتعالي واللاتاريخي والقيمي والفلسفي في مسيرة البحث عن المعنى.. لكن البحث عن المعنى لا يتأتى فقط بمنهج تأويلي –على الرغم من الكثافة الأنطولوجية لهذا المنهج في التفكير- ولكن أيضا باستدعاء مختلف المناهج التي تربط بين الذات والموضوع ربطا جدليا كونيا، ذلك أن مناهج التجربة الحسية والعقلانية والإلهامية هي كلها مصادر للمعرفة الحقة، فإذا اصطنع كل منها اصطناعا سليما أعطانا مفهوما صحيحا لوجه من وجوه الحق، وإذا ما اعتمد أي منها بمعزل عن المناهج الأخرى، فإنه يؤدي إلى تجزيء المعرفة الإنسانية وإلى الابتعاد عن الحقائق الكونية.. إن هذا الموقف المنهجي هو الذي أتاح للإسلام أن ينشئ ثقافة إنسانية الأبعاد، وهذا الذي سيمكنه من تجديد التجربة على وجه أجمل وأرحب. فالمثل الأعلى الإلهي، المثل الأعلى للحق والعدالة والإنسانية، هو مثل أعلى تقترب منه تجارب ومراحل وأطوار إنسانية مختلفة بالمفهوم الأنثربولوجي، يظل كل منها دون مستوى الكمال الكوني المطلق، ويظل مثلنا الأعلى حافزنا الأزلي لخلق جديد نقتدي فيه بإبداع الله وفق منهج القراءتين : قراءة باسم الله الذي خلق، وقراءة مع الله الأكرم الذي علّم بالقلم، وإن التذرع في هذا الخلق يكون لا محالة بمناهج الحس والعقل والإلهام، مهتدين في كل ذلك بنور الوحي الغامر وفق جدلية الوحي والكون والإنسان... إننا نشعر اليوم أن الأرض التي يفترض أن تنبع فيها فلسفة للدين وصناعة المعنى لا زالت خصبة، وأن علينا أن نؤسس الأمور من جذورها، وعلينا أن نعلم أن الأمور لن تكون، أول الأمر، يسيرة وسهلة المنال، لكننا ندرك أتم الإدراك أن التأسيس لا يمكن إلا أن يتصف بالنقص وعدم الاكتمال، وأن طريق التأسيس شاق وعسير، لذا علينا أن نستغل كل الفرص الممكنة من أجل استثمارها في هذا التجديد المبارك.... إن علينا أن نحقق رهان الربط بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، بين الذات والموضوع في بحثنا عن المعنى الذي يربطنا جدليا بأصلنا الكوني. وإن الوقت هو وقت زرع البذور، إلا أن زرع البذور لا يمكن البتة أن يتم من غير وعي تاريخي، لذا وجب استلهام التراث الإسلامي والتراث الإنساني، إلا أن كل تمَلّك لما يسمى تراثا إنسانيا لا بد أن يتم عبر مفاهيمنا الفلسفية للكون والوجود والإنسان، التي هي بطبيعتها ذات بعد كوني، مع تبني أصول التفكير النقدي، والتحرر من السبات الدغمائي، تحقيقا لعالمية الرسالة وانخراطا فاعلا ومبدعا في التجربة الإنسانية ...