هكذا هو هذا الكائن المعقد، غريب الأطوار.. الصعب المركب، المستعصي على الفهم.. هذا المخلوق الضعيف القوي، البسيط المتجبر، العاقل الغبي.. هذه الكتلة المتناقضة من الأفكار والأحلام والسلوكات والمطامع.. تقف دوما مشدوها أمام عبقرية البعض وتفاهة الآخر، شموخ قوم ومذلة آخرين، حضارة عباد وتخلف أشباههم.. هكذا هي الدنيا، هذا الطريق الشائك من وإلى الصمت الأبدي والذي وحده كفيل بخنق أطماع العباد ولهاثهم الموبوء خلف السلطة والمال والجاه. هي الانتخابات إذن على الأبواب، هو موسم الكذب تحت شعار الخطابة، هو العهد الجديد بوجوه بالية، هم قوم تجمدت قسمات وجوههم من فرط الادعاءات الكاذبة والوعود المزيفة والشعارات الزائلة، هم قلة امتلكوا الكثير ولا زالوا، بعد أن شاخوا، يطمعون في مكاسب أخرى وثروات أخرى ومستقبل آخر، أجهزوا على حلم وطن بكامله لسنين ولازالوا، دون خجل ولا تعب، مصرين على أن المغرب لهم لا لغيرهم. هكذا هو الكائن البشري الذي قال عنه الله جل جلاله «إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى»، وطمع النفس الأمارة بالسوء لا يوقفه إلا قانون قوي رادع، ومواطنون واعون بقيمة أصواتهم، فلا بيع ولا مساومة ولا اقتراض.. مواطنون يختارون، بصدق وتركيز ومسؤولية، من سيمثلهم ويتحدث باسمهم ويرعى مصالحهم، من سيكون لسانهم وعيونهم وقلوبهم، لا من يدفع لهم ثمنا لأصواتهم ثم يرحل متنكرا لهم محتقرا لرخصهم ودناءتهم. صورة وزيرة الصحة «ياسمينة» وهي تلتحف غطاء وتبيت في العراء تحت الأمطار ليلة كاملة أمام عمالة أنفا ليلة الخميس الماضي، حاملة قنينة ماء وبسكويتا كي تكون أول مرشح يضع طلب ترشيحه للانتخابات النيابية ويكون رمز حزبها، بالتالي، هو الأول على اللائحة، تلك الصورة جعلتني فعلا أومن بأن السلطة وباء لا دواء له عند شعوبنا المتخلفة، والتمسك بها مسألة حياة أو موت.. قضية وجود مصيرية معقدة جدا يجب، فعلا، دراستها وتفكيك أبعادها وتأثيراتها على سلوك الكائن الإنساني المنتمي إلى دول التخلف. فأن تبيت وزيرة ليلتها وحيدة بين المشردين والمجرمين، سلوك يستدعي من وزيرة الصحة نفسها أن تتبين دوافعه من أحد الأطباء النفسيين التابعين لوزارتها، ولمَ لا يتابع حالة بعض السياسيين الذين هرموا ولازالوا لم يستوعبوا دروس الثورات العربية والحراك المغربي لينسحبوا بما تبقى لهم من كرامة ويفسحوا المجال لوجوه أخرى لتنقذ هذا الوطن. لو شاهدت الوزيرة تلتحف «مانطة» لتزور قرى الأطلس التي تئن تحت الثلج كل شتاء، يموت أطفالها وتلد نساؤها في العراء، لاحترمتها؛ لو لمحتها تحمل قنينة ماء وهي تجوب صحراءنا المغربية لتتفقد «صحة» المواطنين هناك في الدواوير والمداشر لوقفت إكراما لها؛ لو صادفتها ليلا أمام أحد المستوصفات المغلقة أو مصالح المستعجلات تتأكد بنفسها مما تنشره الجرائد يوميا حول وفيات نساء يلدن في العراء أو انعدام وسائل العمل التي يشتكي منها الأطباء والمرضى على حد سواء.. لو.. ولو.. ولو.. ويظل التمني ما يجعلنا نحيى متمسكين بالأمل في أن يساهم المواطنون جميعا في تغيير هذه الصور المقيتة التي تؤكد لنا أن سياسيينا تلزمهم جلسات نفسية كي يستفيقوا من سباتهم وينظروا إلينا بعيون أخرى.. فاليوم ليس البارحة.. والمستقبل أكيد سيكون أفضل، ولن يكون لهم وحدهم بل لكل المغاربة الذين صبروا وصمدوا وكابدوا ولازالوا.. ويستحقون أن يفرحوا ويحيوا بكرامة وعزة وأمان. شاهدت جامع كولحسن يحاورهم.. إنها نفس الوجوه طبعا بملامح زينتها النعمة وسمعت نزار بركة يفتخر بأن حزبه ضاعف تعويضات المتقاعدين من 500 درهم إلى ألف فضحكت.. وسمعت نكتا كثيرة ورجالا تجاوزوا الخمسين تكلموا كثيرا ولسنين طويلة.. هل لازال في جعبتكم ما تقولونه؟ ألا يوجد في أحزابكم غيركم؟ هرمتم.. وتعبنا، تعبنا كثيرا.