«ليس غوته هو الذي أبدع فاوست، بل فاوست هو الذي أبدع غوته»، حين أطلق كارل يونغ هذه العبارة فهو كان يؤكد من خلالها أهمية «النص»، في مقابل «الشخص»، أعني الكاتب. أعاد يونغ، بهذه العبارة، الأمور إلى نصابها، فهو رأى في النص أو العمل الإبداعي قيمته، بالمعنى الذي يعطيه ميشونيك للكلمة. وهي القيمة ذاتُها التي يذهب إليها النقد، بمعنى أن النص، أو العمل، هو ما يرفع من قيمة الشخص أو، بتعبير يونغ، هو من يُبْدِعُ الكاتب. في ما أقرؤه من نقود ومن قراءات في الثقافة العربية المعاصرة، أجد العكس؛ النص مُؤجَّل أو مقصى، والشخص هو المعني ب«النقد» أو ب«القراءة» بغض النظر، طبعا، عن قيمة العمل. في هذا ما يشير إلى طبيعة التحريف الذي يطال المعرفةَ عندنا، وما يؤجِّل حقيقة ما يجري في وضعنا الثقافي. الناقد مُضَلِّلٌ، والنقد خرج عن مجراه، لأنه بقي خارج وظيفته وبعيدا عن متناول القارئ، لأنه، ببساطة، هو ذهابٌ إلى الأشخاص، فيما النص بقي في منأى عن القراءة، أو هو بالأحرى، صار تعِلَّةً أو مطية للتمجيد والإطراء. ليس النص، بالمعنى الذي ذهب إليه يونغ، هو ما يرفع من قيمة الشخص، العكس هو ما يحدث؛ النص يعلو ويرتفع، بِعُلُوِّ وارتفاع صاحبه أو بقدر المكانة التي يضعه فيها هذا «النقد» التضليلي. حدث هذا في الماضي مع المتنبي ومع أبي تمام، وحدث أيضا مع أبي حيان التوحيدي والنفري، كما حدث مع غيرهم، ممن اسْتبعدهم النقد من أرضه، مقابل غيرهم ممن رفع من قيمتهم، كما حدث في كتاب الموازنة للآمدي، وما حدث في ما كُتِب عن المتنبي وخصومه، وما اتُّهِم به هذا الأخير من سرقة وانتحال. أما أبوحيان فهو فضّل أن يحرق كتبه، حتى يعفي النقد من عَنَت «الموازنة» أو المُداهَنَة. حين نتخلص من الأشخاص ونحتكم إلى النصوص، لقيمتها، ربما سننقل المعرفة النقدية من مستوى القراءة السطحية التضليلية إلى مستوى المعرفة الحقيقية التي تُشْبِه المعرفة ب»النقود»، التي إليها يعود مصدر الكلمة في النقد العربي القديم، التي يستطيع الخبير فيها أن يُمَيِّزَ فاسدها من صالحها، أي ما يقبل الصَّرْف والرواج، وما لا يساوي ما نعطيه له من قيمة، لأنه ببساطة هو نقد أو عملة مزورة. النقد مسؤولية، مما يفرض على «الناقد» أن يُقدِّر قيمة هذه المسؤولية من جهة، وأن يعمل على التأسيس لفكر نقدي، ليس الشخص ما يعنيه، بقدر ما يعنيه النص، وهو ما يعني التأسيس لمعرفة نقدية تتوخى الموضوعية، كما تتوخى الصدق، لأنها تكتفي بأهمية العمل، أي بقيمته.