كنّ نجمات المسيرات والوقفات الاحتجاجية التي نظمتها حركة 20 فبراير، لكن مشاركتهن هذه عرفت مدّا وجزرا. منهن من تخلّفت عن الجموع العامة وعن أشغال اللجن أو حتى عن المسيرات. تختلف دوافع هؤلاء الشابات اللواتي «أنّثن» الحركات الاحتجاجية في المغرب بين من أرادت أخذ مسافة من الحركة وبين ما أجبرتْها التزامات الحياة اليومية والدراسة عن التغيب. «المساء» تكشف أبزر الوجوه النسائية للحركة التي غابت، مؤخرا، وأسباب تواريهنّ، في بعض الحالات، عن الأضواء المُسلَّطة عليهن. تصدرت غزلان بنعمر صفحات الجرائد الوطنية كإحدى القياديات البارزات في حركة 20 فبراير في الدارالبيضاء. انخرطت بنعمر، إحدى مؤسسات الحركة في العاصمة الاقتصادية، بشكل مكثف في أشغال الجموع العامة وفي المسيرات، لكن هذه الشابة ستختفي عن الأنظار وتغيب عن الحركة. لكنْ لماذا قررت غزلان، الطالبة في السنة الأخيرة في المعهد الوطني للإحصاء والاقتصاد التطبيقي، التواري عن الأضواء والتغيب عن الحركة؟ لم يكن الجواب على لسان هذه الناشطة «الفبرايرية» سوى أن الحركة بدأت تزيغ عن مبادئها الأساسية التي من أجلها انخرطتُ فيها: «سرعان ما تم التراجع عن المبدأ المؤسس لصالح بعض الآليات المغلقة التي تضُم بعض الأطراف السياسية بهدف التحكم في قرارات الحركة وجعلها فضاء لتصريف مواقف تتعارض، في كثير من الأحيان، مع توجهات ومبادئ الحركة»، تقول غزلان. لم تكن تحكُّمُ بعض الجهات في قرارات الحركة سوى الشجرة التي تخفي الغابة، فغياب بنعمر، حسب أحد أعضاء الحركة، لم يكن اختياريا، بل «تم تهميشها من طرف اللوبي الضاغط، عن طريق عزلها»، لأن قرارات الحركة في تنسيقية الدارالبيضاء تُتَّخَذ خارج الجموع ويتم فرضها خلالها. فأصبحت غزلان تشعر أنها غير مؤثرة في الجموع العامة وفي قرارات الحركة، فابتعدت عن الحركة. توجيه القرارات مرفوض تعتبر غزلان أن غيابها عن الحركة جاء من أجل تسجيل اعتراضها على استغلال الحركة من بعض الأطراف ومحاولة تمرير تصوراتها: «غيابي عن الحركة هو اعتراض على الأساليب التي تنتهجها هذه الأطراف السياسية، التي لا تمثل الحركة بالنسبة إليها إلا فرصة عابرة لتحقيق بعض المكاسب الذاتية، عن طريق الممارسة الانتهازية والوصولية وازدواجية الخطاب، فتنأى بالحركة عن وضوحها وتعزلها عن فئات اجتماعية واسعة غادرت الحقل السياسي». ليست غزلان الشابة الوحيدة من ناشطات الحركة، التي عبّرت عن انزعاجها من محاولة بعض الجهات السياسية السيطرة على الحركة من أجل تمرير بعض أفكارها وضرب مبدأ استقلالية الحركة، التي تعتبر إحدى مؤسسيها عرض الحائط بغية تأزيم الوضع. وداد ملحاف، الناشطة في تنسيقية الرباط قررت، هي الأخرى، في فترة من الفترات، أن تنأى بنفسها بعيدا عن الحركة، بعد ظهور بعض الخلافات والمشاكل في صفوف تنسيقية الحركة في العاصمة الرباط، وهو ما خلّف استياء لدى وداد: «لم يتمَّ احترام قرارات الجموع العامة، التي تتوافق بشأنها الأغلبية الحاضرة ويتم عقد جموع عامة استثنائية، في بعض الحالات، وهو الأمر الذي لم يعجبني، إرضاء لرغبة بعض الأطراف، التي لم تستسغ قرار الجموع العامة». غياب إستراتيجية نضال واضحة يقول أحد رفاق ملحاف إن الأخيرة شعرت باستياء عارم بعد تخصيص أحد الجموع العامة لمناقشة سفرها باسم الحركة إلى تركيا، وهو الأمر الذي نفته وداد ملحاف، معتبرة أنها قدّمت توضيحا لأعضاء الحركة، بعد أن راجت أخبار بأن الدعوة كانت موجَّهة لها من حزب العدالة والتنمية التركي. لكن «بعض الرفيقات تولدت لديهن قناعة بضرورة أخذ مسافة من الاشتغال داخل الحركة بدون توفر رؤية وإستراتيجية للنضال واضحة المعالم تُخرِج الحركة من ردود الفعل تجاه أجندة «المخزن» المأثر في موازين القوة»، يقول محمد طارق، عضو تنسيقية الرباط، قبل أن يردف أن «بعض الرفيقات قررن الغياب عن الجموع العامة للحركة، لأن الأخيرة، في نظرهن، تُرهِق الجميع في نقاشات تقنية وتتطلب وقتا طويلا لإيجاد توافقات قد تكون موضع صراعات بين مختلف الحساسيات». وبغض النظر عن الصراعات التي قد تشهدها الجموع العامة في محاولة من بعض الأطراف فرض تصورات على الجمع العام، فإن بعض المناضلات يواظبن على حضور الجموع العامة وأشغال اللجن العامة، بينما يتغيّبْن عن المسيرات، والسبب، يقول أحد أعضاء الحركة، هو»الخوف من التدخل الأمني». صراع القيّم يضيق الخناق على الفتيات قد يكون الخوف من التدخل الأمني سبب تغيب بعض «المناضلات» عن المسيرات التي تدعو إليها الحركة، لكنها ليست دائما الدافع وراء هذا القرار. عدّد لنا أحد أعضاء الحركة بعض أسباب غياب فتيات الحركة، ليس من الحاضرات في وسائل الإعلام، لأن بعض الوجوه التي غابت أو «غٌيّبت» لم تكن من الوجوه الإعلامية، بل من الناشطات في أشغال الجموع العامة وحتى في أشغال اللجن. وقال هذا الفبرايري إن أسباب الغياب تتوزع بين أسباب ذاتية وأخرى ترجع إلى «محاصرتهن» من طرف ناشطي الحركة، يقول هذا «العشريني»، قبل أن يستدل على ذلك بأن غزلان بنعمر «هُمِّشت»، فاختارت الغياب، في حين أن شهيدة، المعروفة ب«تيفراز»، دُفعت إلى الابتعاد عن الحركة، ولو لفترة معينة. لا تنفي هذه الناشطة، التي تتحدر من قرية «تزاغين» في نواحي مدينة الناظور، أنها قررت الابتعاد مرحليا عن الحركة، لكنها تُقرّ أنها اختارت الأمر طواعية، لأنها أرادت أن «تحضر لأفكار جديدة بخصوص أنشطة الحركة». ورغم أن «تيفراز» ليست من الوجوه الإعلامية للحركة، فإنها حوربت من خلال «الضرب تحت الحزام» من طرف بعض رفاقها في الحركة، ليس لأنها تحاول الظهور وإنما بسبب «صراع القيّم»، فالحركة تشهد «صراعَ قيم، لذلك تم تغييب بعض فتياتها»، يقول أحد أعضاء الحركة قبل أن يضيف أن «بنعمر هُمِّشت لأنها أصبحت تُدلي بتصريحات ومواقفَ لا ترضي اللوبي المسيطر على تنسيقية الحركة في الدارالبيضاء، بينما حوربت «شهيدة» عن طريق الإشاعة، بسبب بعض القيّم والمواقف أيضا، لذلك ارتأت الابتعاد قليلا». بحثا عن ولادة جديدة للحركة تنفي هذا الطرحَ بعضُ الأصوات من داخل الحركة، قبل «شهيدة» نفسها، التي تقول إنها أخذت مسافة من الحركة من أجل «تطوير» الأشكال الاحتجاجية، الذي كان من بين الأسباب التي دفعتها إلى الغياب، حسب ما تقول. أما بعض أصدقائها فيرون أن هذا التغيب الاختياري وتقليلَها من نشاطها كان من أجل العودة بقوة، «لأنها كانت في حاجة إلى قسط من الراحة، وهي الآن نشيطة كما كانت بل أكثر»، يقول أحد رفاقها في الحركة. قرار تغيب بنعمر عن الحركة، لا يعني، أيضا، القطيعة النهائية مع هذا «الحلم الشبابي الاستثنائي»، لكنها فرصة لإعادة التفكير وترتيب الأوراق. «إنها لحظة تفكير جماعيّ مع بعض المناضلين الحقيقيين داخل حركة 20 فبراير وداخل الحركة السياسية الديمقراطية، لإنضاج شروط انطلاقة ثانية للحركة على أساس أهدافها الواضحة ومطالبها المعلنة، وبالتزامات محددة تؤسس للتعاقد التاريخي الذي نحتاجه اليوم لخوض الصراع السياسي ضد الاستبداد بالسلطة»، تقول بنعمر. وعلى العموم، فإن سبب عودة بعض الفتيات إلى الاشتغال داخل الحركة بعد غيابهن لمدة يختلف من شابة إلى أخرى. فوداد ملحاف، التي تسمي غيابها عن الحركة «فتورا»، لحبها لها، عادت من أجل المساهمة فيها من جديد، بعدما لم تستطع الغياب لمدة طويلة، رغم عتابها على طريقة تدبير أشغال بعض الجموع العامة: «كنت أعيش مرحلة فتور، لكنّني قررت الرجوع، لأنّي أدركتُ أنها ليست معركتي لوحدي، ويجب أن أساهم فيها بما استطعت». الدراسة والسفر رغم أن وداد أو حتى تيفراز قررتا الرجوع، بحماس، إلى نشاطهما المعتاد داخل تنسيقية الرباط، وفي لجنة العرفان على الخصوص، فإن بعض الشابات، من الوجوه غير الإعلامية للحركة، غادرن إلى غير رجعة، دون حتى أن يُسلَّط عليهن الضوء: «نفتقد نضال رفيقات كنّ معنا قبل 20 فبراير وخلال المحطات النضالية الكبرى، لكنهن، للأسف، قررن الابتعاد عن أنشطة الحركة بشكل نهائي»، يقول محمد طارق، الناشط في الحركة، قبل أن يضيف أن غالبيتهن من غير المنتميات سياسيا، «لكنهن، مع الأسف، اكتشفن أن هناك جهات من داخل الحركة تريد أن تحقق مكاسب سياسية باسم شابات وشباب الحركة، حتى تتفاوض مع جهات داخل النظام باسم الحركة»، يضيف محمد طارق، عن اتحاديي 20 فبراير. لكنْ، بين رغبة هؤلاء في إعادة التفكير في مشاركتهن في الحركة أو حتى هربا من صراعات بعض الأفكار والقيّم ومن استغلال الحركة، فإن بعض «المناضلات» اضطررن إلى التغيُّب عن ساحات المشاركة لأسباب ذاتية: «هناك العديد من المناضلات اللواتي تغيّبْن بسبب الدراسة أو العمل أو لمشاغلَ أخرى.. اضطررن للغياب عن الحركة مؤقتا.. ولكنهن غالبا ما يحضرن أنشطة الحركة»، يفسر الحسين إكاجتاون، عن تنسيقية الرباط . ف«الشخص الناجح هو من يستطيع أن يناضل دون أن يغفل دراسته أو يُخلّ ببعض الالتزامات الأخرى»، تقول حسناء الزياني. غياب لأسباب شخصية يرى البعض أن هذا الغياب أمر طبيعي بسبب تواجد الحركة لحوالي 8 أشهر بشكل مكثف ومنظم ومستمر خلال المسيرات الأسبوعية والوقفات النضالية أو عبر كل الأشكال النضالية والإبداعية للشباب ف«كان من الطبيعي أن تغيب بعض الوجوه، بفعل عامل التعب، من العمل الميداني المكثف وطول الاجتماعات، إضافة إلى أن بعض الشابات اشتغلن مع رفاقهن في تنسيقيات أخرى، حيث محل إقامتهن»، يقول محمد طارق، عضو الحركة. إن التزامات الأخرى لهؤلاء الشابات، اللواتي ينشطن في أكثر من تنظيم وجمعية، إضافة إلى الحركة، ساهمت، في بعض الحالات، في عدم قدرتهن على الحضور: « كان سبب غياب بعض الرفيقات هو الالتزام مع جمعيات المجتمع المدني بتأطير المخيمات الصيفية»، يضيف طارق. تتحدر مجموعة مهمة من الفتيات الناشطات في الحركة من مدن خارج الرباط، لذلك فإنه بانتهاء الدراسة وإغلاق الحي الجامعي، يجدن أنفسهن بدون مأوى في الرباط، مما يدفعهن إلى التوجه إلى منازلهن في مساقط رؤوسهن. وداد ملحاف إحدى هؤلاء الفتيات اللواتي ابتعدن عن الحركة لفترة، لذلك فقد رافق الفتورَ المؤقت بين وداد والحركة تغيّر في وتيرة مشاركة «ودود»، كما يحلو لأصدقائها مناداتها. فإغلاق أبواب الحي الجامعي السويسي الثاني في الرباط، حيث تقطن طالبة السنة الرابعة من المعهد العالي للإعلام والاتصال، كان له تأثير في قرار وداد :»السبب الرئيسي لتغيبي كان هو إغلاق الحي الجامعي، ولكنه لم يكن غيابا تاما»، تقول وداد ملحاف، قبل أن تضيف أن «الغياب يكون عموما لأسباب شخصية، كالحصول على فرص عمل أو الدراسة، إضافة إلى مشكل مصاريف التنقل». أخذ مسافة من الحركة بسبب إغلاق الحي الجامعي، وجدت حسناء الزياني نفسها ضمن لائحة المتغيبات عن أشغال تنسيقية الرباط. غادرت الزياني الحي الجامعي حسناء في اتجاه سوق السبت في نواحي بني ملال، حيث مسقط رأسها. لكن مغادرة هذه الشابة، التي تواصل دراسة الحقوق في جامعة محمد الخامس، لا تعني انقطاعها عن نشاطها ضمن حركة 20 فبراير داخل تنسيقيات أخرى: «كنت أنشط داخل تنسيقية سوق السبت»، تقول حسناء الزياني. «غابت عن الرباط وشعلاتْ العافية فسوق السبت.. دابا رجعاتْ»، يقول رفيقها في الحركة، الحسين إكاجتاون. لا يُرجع البعضُ هذا الغياب فقط إلى الأسباب الذاتية ولكنْ إلى ولاءات أعضاء الحركة فصائل أخرى: « يتوقف ولاء الشباب لانتماءاتهم السياسية على انتمائهم إلى الحركة»، يقول أحد أعضائها، قبل أن يضيف صديقه أن «مجموعة من الشباب المنتمين إلى حزب الطليعة أو الاتحاد الاشتراكي، إضافة إلى شباب آخر وجدوا أنفسهم مجبَرين على التغيب بعد أن قررت تنظيماتهم «أخذ مسافة» لرؤية الحركة من بعيد». نفت حسناء الزياني هذا الطرح، مؤكدة أنها لم تكن تحضر أشغال تنسيقية الرباط لأنها في مسقط رأسها وليس تنفيذا لقرار الشبيبة الطليعية التي تنتمي إليها.