سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
غلاب: البسطاء هم من يقومون بالثورة فتتلقف نتائجها كل الطبقات الكاتب والمفكر قال للمساء المثقفون مقصّرون في الاهتمام بالشأن العام والتعليم هو «كارثة المغرب الأولى»
عبد الكريم غلاب، الكاتب والصحافي والسياسي والمناضل. اسم من العيار الثقيل. بصم مسار التاريخ المغربي وكان له أثر في كل المجالات التي اشتغل فيها. كانت له الجرأة في كتابة مذكراته في وقت «يتهيّب» الكثيرون من ذلك. في هذا الحوار، تنقّلْنا معه عبر هذه المجالات، فقال عن المثقفين إنهم مقصّرون في الاهتمام بالشأن العامّ وقال عن الثقافة إنها «مغبونة» وإن وزارتها يجب أن يتولاها ذوو الكفاءة.. وقال عن اتحاد الكتاب إنه قد أصابته «الشيخوخة المبكرة»... أما عن التعليم فقال عنه إنه «كارثة المغرب الأولى»، التي استعصى حلها. كما تحدث في الحوار، أيضا، عن الدستور الجديد وعن أسباب عزوف الشباب المغاربة عن اقتحام عرين السياسة. -كيف تنظر إلى وضعية الثقافة في المغرب؟ بصفة عامة، تعتبر الثقافة في كثير من الدول عبارة عن كمّ زائد ومن تم فإنه لا تعطاها القيمة اللازمة، وعلى ذلك، فإن آخر ما تفكر فيه الحكومات هو وزارة الثقافة. كما يلاحَظ أن أضعف ميزانية تُخصَّص من ميزانية الدولة هي المخصَّصة لوزارة الثقافة. في بعض البلدان، تُخصَّص للثقافة ميزانية مهمة، خاصة حينما يكون هناك اهتمام بالآثار، كما هو الحال في مصر. كما أنه يختار لها ذوو الأهلية وذوو الكفاءة. أما عندنا في المغرب وبكل صراحة، فإن وزارة الثقافة وزارة «منكودة الحظ».. أحيانا، اختير لها البعض، لكفاءتهم، لكن الميزانية بقيت عائقا أمام طموحاتهم وحائلا أمام تنفيذ ما حملوه من برامج، فلم يكونوا قادرين على التنشيط الثقافي كما ينبغي. إن المنطق يقول إن العمل الثقافي لكي يكون في المستوى المطلوب، لا بد أن تكون له ميزانية محترمة، فلا بد من الاهتمام بالكتاب وبنشر المعرفة، بجميع وسائلها، والاهتمام بالمسرح والسينما والرسم. كما يجب العمل على توسيع شبكة المكتبات العامة وشبه الخاصة. لكنّ الملاحظ أن وزارة الثقافة في المغرب، في عهود من عهودها الكثيرة، لم يكن لها شيء من هذا. صحيح أنه في بعض العهود قامت الوزارة بتوزيع المكتبات وبتنشيطها وإخراج مشروع المكتبة الوطنية الذي ظل معطلا مند الاستقلال إلى لوجود. كما كانت هناك خطوة تشجيع الكتاب عن طريق إنشاء جائزة له. لكن كل هذا يبقى «قليلا» جدا في حق الثقافة ولا يكفي. وانطلاقا من كل هذا الطموح الكبير، يجب أن يُختارَ لوزارة الثقافة في المستقبل من له ثقافة واسعة ومن له إلمام بالشؤون الثقافية في المغرب ومن له أيضا طاقة على العمل وله حاسة في المجال وله مشروع واضح يبنى على تشجيع الثقافة بين الشباب والنساء، وحتى الشيوخ والأطفال، من خلال إنشاء مكتبات لهم وكتب تُوزَّع عليهم على المدارس. من جهة أخرى، يُلاحَظ أن وزارة الثقافة لا نشاط لها في الميدان المسرحي والرسم والكتاب تقريبا، فهي لا تهتم به، فالمجال يبقى «واسعا» والمسؤولية كبيرة جدا. على مستوى الحياة الثقافية، عموما، يظهر لنا أن اتحاد كتاب المغرب قد أصيب بما تصاب به المؤسسات من شيخوخة مبكّرة، ولهذا لم يعد له النشاط والحركية التي كانت عنده في السابق، حيث كانت له فروع تقريبا في مختلف جهات المغرب تنشط على مدار السنة تقريبا. على مستوى الكتاب، يبدو أن الناشرين أصبحوا قلة وصاروا يهتمّون بنشر الكتاب المدرسي في الغالب أو الكتب التي تأتي بأرباح كبيرة جدا. أما بالنسبة إلى الكتاب الثقافي فهُمْ لا يلقون له بالا ولا يولونه الاهتمام الذي يستحق، فهم يُقدّمون ما يرون أنه مضمون «الربح». فلا تعويض لأصحابها رغم ما يبدلونه من جهد. إننا نرى أنه لم يعد هناك ذلك الناشر «المغامر». من جهة أخرى، فقد أصبح الكتاب محدودَ النشر، لانتشار التلفزيون والأنترنت ول«كسل» الناس عن القراءة. وهذا يدفعنا إلى أن ندق ناقوس الخطر في بلادنا ونرفع صوتَنا عاليا بالقول إن الثقافة الحقيقية لا تأتي إلا عن طريق الكتاب. فالكتاب هو الذي يؤسّس للثقافة. -هناك مجال مرتبط بمجال الثقافة ويتعلق الأمر بالتعليم، ألا ترى أنه منذ الاستقلال ما يزال يلعب على حبال متعددة ولم يقف على رجليه بعد؟ مشكل التعليم هو «كارثة» المغرب الأولى، فالتعليم مسؤولية، أولا وأخيرا. ويمكن إلقاء المسؤولية على نظام الحماية، الذي خرج من المغرب وترك أغلبية المغاربة أميين على مستوى من المستويات. ولذلك، فحينما جاء الاستقلال، كانت أمام المدرسة المغربية إشكالية تعليم الملايين، وهذا شيء كان من باب سابع المستحيلات، فوجدت وزارة التعليم نفسَها في حيرة من أمرها. وهذا ليس فقط من حيث العدد المطلوب تعليمُه ولكن أيضا من حيث البرامج التي يجب أن تتطور سنة بعد سنة.. والوزارة ليست لها القدرة الكافية، بشريا وماديا للقيام بذلك، وهذا هو السبب الثاني ل«الهزال» الذي يعيش عليه التعليم. السبب الثالث هو أنه يُنظَر إلى التعليم نظرة منفعة، وهي نظرة عموم الناس، حيث إن الشعار الذي يرفعه الآباء هو «إنني أعلّم ابني لكي ينفعني».. أما أن يكون التعليم من أجل التعليم فهذا هو ما لم يكن يفكر فيه المغاربة. ولذلك، أرى أنه كان على التعليم، منذ اليوم الأول، أن يأخذ طريقه في التنويع، كفتح أبواب التكوين المهني والتقني وإدخال مفهوم العمل في برامج التعليم. أما أن يظل «يدور» في حلقة مفرغة، فهذا أمر في غاية الخطورة. إن الذي وقع ويقع منذ 50 سنة هو أن كثيرا من التلاميذ لا ينسجمون مع التعليم، ومن تم يقع الهدر المدرسي. كما أن هناك ظروفا أخرى تساهم، بشكل كبير، في توسيع دائرة المشاكل، وهي بعد المدرسة عن المواطنين، وهكذا فهم عندما يجدون أنفسهم أمام هذا الواقع، فإنهم يُفضّلون أن يتركوا كراسي المدرسة عوض تحمُّل متاعب الذهاب والإياب، صيفا وشتاء، في ظروف مزرية. وهكذا إذا ما أضيف هذا إلى عدم نفعية التعليم وارتباطه بمحيطه وما يكلف من مصاريف تثقل كاهل الآباء، فإنهم يفضلون أن يأخذوا أبناءهم معهم إلى العمل، عوض إرسالهم إلى المدرسة، التي يرون فيها مجرد «مضيعة للوقت»... كان يجب على وزارة التعليم أن تنظر في كل هذه المسائل وتخطط لتجاوزها، لكني لا أقول إن الوزارات لا تقوم بدورها ولكن الأمر أكبر منها وأعظم، إضافة إلى أن هناك برامج مختلفة تتغير مع كل تغيير يقع في هرم الوزارة، ومن تم أصبحت المدرسة مجردَ حقل تجارب، وهذا ما جعل التلميذ يعيش شرخا وغربة في المدرسة وفي البيت. وسيتسع التباعد ويكبر، يوما بعد يوم، بين الأجيال إذا لم يُفكَّر فيه بالجدية اللازمة. و في الأخير، يبقى الفقر هو السبب الأول والأخير في مشاكل التعليم في المغرب. وعلى ذلك، فإذا لم نحُلَّ كل هذه المشاكل، فسيظل التعليم متخبطا في واقعه لا يعرف «رأسه من رجليه». فالتعليم يجب أن ينظر إليه بشكل جدي وألا نتركه لهوى هذا أو ذاك. فقد قرأتُ بعض التقارير التي أنجزتْها أطر من داخل وزارة التعليم تختلف تماما عما قالته الوزارة ويُبِين عن فشل مطلق للوزارة، فمن نصدق، إذن؟!. - في جانب آخر، كيف تنظر إلى تعامل الصحافة مع الثقافة؟ تتحدد وسيلة نشر الثقافة في ثلاث وسائل: المجلات، وقد أكدت التجارب أنها غير ناجحة في عموم البلدان، أي أنها لا تستطيع أن تمول نفسها بنفسها ولا تستطيع «المقاومة». وقد كانت بعض الأحزاب، مثل حزب الاستقلال، الذي اهتم بالثقافة من خلال أول جريدة أصدرها وكانت تسمى «الأطلس» في منتصف الثلاثينيات، حيث خصصت صفحة ثقافية كل أسبوع، ثم تطور الأمر وأصبح للحزب مجلة ثقافية اسمها «رسالة المغرب». وكانت ناجحة من حيت القراء المحدودين وناجحة من حيث المواد. وحينما نشأت جريدة «العلم»، كانت لها صفحة ثقافية أسبوعية، استمرت إلى أن ظهر «الملحق الثقافي»، الذي ما يزال قائما إلى الآن، والذي رغم تعاقب «الإحداث» عليه ما يزال «صامدا»... هناك بعض الصحف الأخرى التي تولي الثقافة اهتماما، لكن هذا يظل امرأ محدودا، لكونه لم يستطع أن يلم حوله المثقفين. لا بد من وسائل لإشاعة الثقافة ونشرها بين الناس، فمن واجب الصحافة أن تساهم مساهمة جدية وأن تستقطب الأقلام والكتّاب. لكن الملاحظ هو أن البعض منهم يستنكفون أن يكتبوا في الصحافة اليومية وهذا خطأ.. أنا أعتقد أن كل صحيفة ينبغي أن يكون لها ملحق ثقافي بشكل ما، لا يساهم فيه المحررون المعتادون في اليوم اليومي، ولكن يفتح لعموم المثقفون وتثار فيه قضايا للنقاش والجدل وينشر، كذلك، النصوص الإبداعية. وهكذا يمكن أن نخرج من هذا الجمود الثقافي القائم الآن في المغرب، ولكنْ يبقى المشجع الأول والأخير هو وزارة الثقافة.. وإذا لم تقم هذه الأخيرة بتشجيع الثقافة بالوسائل الحديثة التي يمكن أن تبتكرها، فما أعتقد أن الثقافة ستقوم لها قائمة. - كانت لك الجرأة على كتابة مذكراتك، وهذا قليلا ما يقوم بها السياسيون والمثقفون، رغم أنهم يكونون في قلب الأحداث ويشاركون في صنعها، لماذا هذا التخوف والاستنكاف عن كتابة المذكّرات؟ سؤالك هو نفس سؤالي شخصيا، فمنذ زمن طويل، وأنا أدعو أصدقائي الذين شاركت معهم العمل في الحقل السياسي والثقافي وحقول أخرى إلى أن يكتبوا مذكراتهم، كل واحد من الجانب الذي يهُمُّه ومن الجانب الذي مارس فيه العمل. ولكن كتابة المذكرات فيها نوع من الهيبة والتخوف من التصريح. فالعملية ليس سهلة. ولكن يبقى المشكل في الشكل الذي يريد أن يعطيه الكاتب للمذكرات. فهناك من يسرد الأحداث كما لو كان مسجلة تحكي ما حدث، وهنا تكون مجرد مذكرات تافهة. ولكن المذكرات التي يختار فيها صاحبها الحدث المهمّ ويصحبه بالرأي والتفكير وبناء المستقبل، حيث يتعدى حس المذكرات إلى حس المستقبليات، تبقى هي الأهم. فالمذكرات، رغم أنها عمل صعب، حيث إنها أحيانا يتصل العمل فيها أو كتابة بعض أحداثها بأشخاص لا يريد الكاتب أن يمس علاقته بهم... إما أن تكون علاقة جيدة يخشى أن تسوء أو علاقة سيئة لا يريد أن يذكرها فتفتح النار عليه.. وهذا خطأ، لأن المذكرات ليست ملك كاتبها. مذكرات السياسي هي في ملك التاريخ ولهذا يجب أن يكون منصفا وأن يبتعد عن الأنانية وعن الجانب الشخصي، حيث يجب أن يختفي وراء الجانب العام وراء القضية. إن المذكرات تكون ناجحة بقدْر ما يستطيع أن يجعل منها عملا ناجحا. وقد تكون فاشلة بقدر ما لا يستطيع أن يجعل منها عملا ناجحا وهذا هو الخطر، المذكرات فيها نوع من الخوف. لكن هذا خاطئ فلا ينبغي للإنسان أن يخاف، مما شارك فيه وعايشه وقد لا تكون عنده مسؤولية إن كان العمل خاطئا أو صائبا. قد لا تكون له المسؤولية فيه، ولكن المسؤولية في ما عايشه وفكّر فيه، فحكى انطباعه عنه، وهذا هو العمل الذي يجعل المذكرات ترتفع من مستوى الحكاية إلى مستوى الفكر. - الحراك الذي يعرفه العالم العربي يرى البعض أنه خلقه الناس البسطاء في الوقت الذي عجز المثقف على أن يخلق هذه الحركية من زمان؟ ما رأيك؟ هذا صحيح وقد كتبت في هذا الموضوع كثيرا، وذلك لأن المثقفين عموما لا يقومون بواجبهم السياسي كما يجب. في مصر مثلا التي هي دولة طافحة بالمثقفين والمفكرين ، ولهم من العمل الثقني والسياسي في غير ما ميدان الشيء الكثير ولكنهم كانوا عاجزين على تغيير الاوضاع مع أنهم عاشوا تحت حكم مبارك 30 سنة و لم يكونوا ليرفعو أصواتهم ضد الظلم. كانت هناك بعض المؤسسات فيها بعض المثقفين العاديين ولكنهم كانوا حذرين حتى لا تهان كرامتهم في ظل حكم ديكتاتوري. نفس الشيء في سوريا وكذلك كان الأمر بالنسبة للعراق. ولكن التغيير لا يأتي في الغالب إلا عن طريق الشعب عموما. فهو يأتي عن طريق الاحساس بالظلم. والاحساس بالظلم يأتي عن طريق المساس بالمصالح. لو أحد من الشعب لم تمس مصالحه وكان متوفرا له الحياة الكريمة ولأبنائه من مدرسة والتطبيب. فإنه سيبتعد عن التحرك والثورة. لكن هذه سنة الله في الأرض في كل العالم. لكن في الواقع لم يقم بالحركة «التحررية» في البلاد العربية إلا الناس البسطاء. هذا شيء طبيعي. نعم شيء طبيعي أن يشعلوا الشمعة الأولى . ولكن من بعد ذلك تتلقفها كل الطبقات كما حصل في مصر. الآن كل الطبقات تقول إنها تدين بالعمل لثورة 25 يناير لعموم الشعبية وتسعى إلى ان تتحمل المسؤولية وتكون لها موطئ قدم في مؤسسات الدولة. ونفس الأمر حصل في تونس وبدأ يحصل في ليبيا وسوريا. والحقيقة أن المثقفين مقصرين في الاهتمام بالشأن العام. المثقف أصبح كالراهب الذي يدخل ديره ويعيش مع كتبه وعمله الجامعي ورسائله. وهذا خطأ كبير جدا. الشأن العام يجب أن يقوم به المثقفون. وهذا ليس بالجديد فأيام الخلافة والملوك كان قصر الملك عامرا بالأدباء والمثقفين. وأحيانا رجل الدولة يضطهد العلماء ويقتلهم. هنا للعبرة أذكر أني حضرت ندوة عن ابن خلدون الرجل المثقف، لكنه لم يشتغل بالسياسة. رأى الكثير من الدول التي عاش بها. ولكنه لم يتحدث إلا حينما دخل قرية ابن سلامة ويكتب عن التاريخ ومقدمة التاريخ. سمعت أن «ابن عطية» في عهد الموحدين أخذ مكبلا وقتل. فالمثقفون دائما يبتعدون عن العمل لكنهم يقعون في الفخ. يخافون فيتملقون وحينما لا ينفعهم ذلك. يهربون من العمل. لكن الذين يقدمون أنفسهم كضحية هم عموم الشعب. وهذا شيء قد يكون طبيعيا. - بعد مسارك الطويل في الحياة والصحافة وكمناضل وسياسي وأديب ، كيف تتأمل هذه الأحداث وأنت بعيد عنها ؟ أنا لست بعيدا عن الأحداث يمكن أن أقول إنني في قلبها، وعلى ذلك فرؤيتي لها ليست رؤية شخص بعيد عنها، ويتأملها من بعيد كبانوراما، ولكني في الواقع لم أعد أشارك فيها عمليا. أولا لسني وثانيا أريد من الشباب أن يأخذ المشعل ويتحمل المسؤولية. أنا بكل صراحة راض عن المسؤولية التي يتحملها الشباب سواء في حزب الاستقلال أو في البلاد عموما، من الناحية السياسية والأدبية. أنا سعيد جدا بهذا التطور الذي حدث ويحدث في المغرب يوما بعد يوم ، هناك تطور سياسي وتطور ثقافي وكذلك تطور حياتي يومي فكري وإنساني. فمن الناحية السياسية أعتقد أن المغرب خطى خطوات مهمة جدا نتيجة نضاله ونضال أبنائه سنوات طويلة، وخاصة منذ الاستقلال إلى الآن. إذ لا مجال للحديث عن نضال ما قبل الاستقلال لكون نضال ما بعد الاستقلال هو المهم جدا. فهو مهم لأن معظم ساكنة المغرب لا يذكرون واقع ما قبل الاستقلال. فبالنسبة ذاك عهد بائد وولى. وإذا سألت كثيرا من الشباب متى جاء الاستقلال، وكم سنة مرت بعد الاستقلال فتجده لا يذكر إلا نتفا بسيطة وتاريخا غير واضح وغير محدد لأن معظمهم يعيشون يومهم ولا ينظرون إلى ما خلفهم من أيام مضت. بالنسبة للتطور الذي حدث من الناحية السياسية فهو تطور مهم، أولا حدث في نوعية التفكير السياسي لقد أصبح المسؤول السياسي يفكر بجدية في تطور العصر، وينظر إلى المستقبل كأنه قدر المغرب وكأنه موكول إليه أن يصنع هذا المستقبل وهذا شيء مهم جدا، ونفس الأمر نجده عند الشباب فهم يسايرون الأحداث ويواكبونها و ينظرون إلى المستقبل بكل عزم. ويظهر هذا التطور بشكل واضح قي مجال الحريات العامة . وأعتقد أن إقرار الحريات العامة وممارستها مع بعض الانفلاتات والتجاوزات التي تحدت من هنا ومن هناك يعد شيئا مهما للغاية . فالفكر السياسي لم يعد يقبل أن تصادر الحريات العامة، سواء في الصحافة أو في التجمع أو في تكوين الأحزاب وممارسة القول أو الخطابة . فنحن نرى ذلك تطورا مهما لأننا عشنا ضغط على الحريات ومصادرتها في الماضي ونعرف قيمة ذلك ، فالصحيفة يمكن أن تكتب ما تشاء ولا أحد يحاسبها إلا إذا خرجت عن القانون وهذا شيء طبيعي جدا، فطبيعي جدا أن تخرج عن القانون، لأنه كما يقال «اللسان ما فيه عظم». و طبيعي جدا أن يتابعها القانون دون أن يتجاوز القانون حدود قانونيته وألا يتجاوز ممارس الحرية حدود حريته. نحن الذين عشنا عهد مصادرة الحريات نعرف قيمة هذه الحرية ونقدرها حق قدرها. هذا من جهة ومن جهة أخرى نحن ننظر إلى المستقبل وعيوننا على الماضي نرى أن التطور الذي حدث بإصدار وإقرار الدستور الجديد بالاستفتاء، نرى أنه مهم جدا. طبعا الدستور الجديد ليس جديدا كله، ولكن فيه الكثير من الجديد، وفيه الكثير من التطورات المهمة. بالطبع كثير من الناس يقولون الدستور ليس مهما بقدر ما هو مهم التطبيق، هذا صحيح، نحن نتطلع إلى سنوات التطبيق ولكن على كل حال كل تشريع أساسي. فهو يضمن حرية الانسان وكرامته والعمل وحقوق المرأة ويضمن كذلك من المؤسسات التي أسسها الدستور سواء اجتماعية أو سياسية واقتصلدية أو ثقافية فكل هذا يعد مهما جد ا لسائر الحياة في المستقبل. طبعا الدستور لا يسير على قدميه، وإنما الذي يسير الدستور هو الشعب. فإذا كان الشعب في المستوى سيكون هذا الدستور في طريق التطبيق. أقول إن الشعب هو الذي يعطي لهذا الدستور معناه الحقيقي بالممارسة العملية. وليس بالتنكر فهذا لا يجدي شيئا. الدستور أداة للعمل ونحن نعمل من أجله هذا هو المهم. وبطبيعة الحال كل واحد مسؤول عن جزء من العمل السياسي، فرجل الشارع هو الآخر مسؤول عن جزء من العمل السياسي. المسؤوليات تتعاظم بقدر ما يعلو نشاط المواطن والمواطنة. فالموظف له مسؤولية في تطبيق الدستور لان كثيرا من فصول الدستور لا يعود تطبيقها فقط إلى رئيس الحكومة والبرلمان ولكن يعود إلى رجل الشارع والمواطن العادي . ثم وهذا مهم جدا تعود المسؤولية إلى السلطة العمومية الممثلة في البرلمان الذي سينتخب بعد شهرين. والحكومة التي ستنشأ عن البرلمان، وكذلك الموظفين الذين سيسيرون شؤون هذه الحكومة. فالجميع مطلوب منهم ان يتخلقوا باخلاق الدستور الجديد ويسايرونه ويتجندوا لتطبيقه ، لا يكفي أن نتقاعد في منازلنا ونشم الظلام لان الدستور لم يطبق، فهو لم يطبق لاننا لم نعمل على تطبيقه وسكتنا عن التجاوزات التي تكون من هنا اوهناك فاصبح التجاوز هو القاعدة ولم ناخذ المسؤولية من اولها. ولهذا لا ينبغي ان نضع الثقل على الغير ونتحرر من المسؤولية التي تظل مشتركة ولهذا يجب على كل واحد منا ومن موقعه أن يعمل على تطبيق الدستور.
- ما هي النقط المشرقة التي ترى فعلا أنها تسير في سياق تأسيس دولة حق وقانون؟ هناك نقط كثيرة جدا، كانت بعضها موجودة في الدساتير القديمة ولم تكن مطبقة. ومن هذه النقط، أولا، إقرار الحريات العامة، منها إعطاء المسؤولية للحكومة أكثر من المسؤولية التي كان يأخذها الملك بين يديه، ثم الإقرار بالمؤسسات، كمؤسسة المرأة ومؤسسة الشباب ومؤسسة الرقابة على الدولة، مثل مجلس الحسابات وكذلك دستورية القوانين ودستورية التشريعات، مثل المحكمة الدستورية وغيرها، والتي قد تبدو لنا صورية، كمؤسسة المحاسبات ومؤسسة تكافؤ الفرصة ومؤسسة المنافسة، والتي قد تظهر أنها عادية، ومؤسسة حقوق الإنسان، التي أصبح لها دور في مراقبة الانتخابات، فبدل أن تكون مراقبة الانتخابات موكولة إلى وزارة الداخلية أو على الأكثر تكون موكولة إلى القضاء، فهناك ممثلو الشعب. فمؤسسة حقوق الإنسان يمكنها مراقبة الانتخابات، وهذا شيء مهم جدا. هكذا أصبحنا نجد الحكامة في البرلمان، وهو أمر مهم جدا، ولهذا أعتقد أن كل هذا جدير بالاعتبار. - هناك بعض التكتلات التي تقوم الآن بين بعض الأحزاب، هناك من يفسرها على أنها تسعى إلى وضع حد لهيمنة بعض الأحزاب التقليدية، كحزب الاستقلال، والمد الإسلامي.. كيف تنظر إلى هذا الأمر؟ أرى أنه لا ينبغي أن نظر إلى التطورات السياسية بنظارات سوداء ونصدر أحكاما، التكتلات السياسية ضرورية جدا، خاصة في المغرب. فالمغرب بما أنه منح الحرية والحق لتأسيس الأحزاب، وأعطاها مسؤلولية كبرى وهي كذلك للان السياسة اليوم أصبحت موكولة إلى الأحزاب وليس إلى الأفراد. فدور الفرد المجرد أصبح ثانويا بالنسبة إلى دور الفرد المؤطر في الحزب أو النقابة. ولهذا كثرت الأحزاب في المغرب، حيث أصبح من حق كل واحد أن ينشئ حزبا، إلى أن وصلت 30 حزبا... وحينما تدخل هذه الأحزاب إلى الانتخابات لتأسيس البرلمان، ستحدث نوعا من الفوضى ونوعا في اختيار الشخص الذي يستحق أن يكون عضوا في البرلمان، ونوعا من الفوضى في الانتماء. المواطن لكي يشتغل بالسياسة يجب أن «ينتمي»، لكنْ حينما توضع أمامه قائمة ب30 حزبا، فإما أنه سيعظُم الأمر أمامه، فينفر من العمل السياسي، أو أنه سيندفع بدون وعي ومعرفة أو أنه سيتحايل، حيث يدخل إلى هذا الحزب شهر أو شهرين فإذا ما «طابت» نفسه إلى حزب آخر استقر فيه. ولا بد أن يوضع حد لهذه الفوضى من خلال تكوين مجموعة من الأحزاب المتماثلة في برامجها أو المتجاوبة في أفكارها. فهذا التكتل عمل جيد جدا، فهو، أولا، سيحُدّ من كثرة الاتجاهات الحزبية، ولهذا لا أعتقد أن في ذلك نوع من الإقصاء والوقوف في وجه حزب آخر. إن حزب الاستقلال هو الأصل ولم تنشأ الأحزاب إلا ل«مقاومته»، لم يكن في المغرب إلا أو أربعة أو خمسة كأحزاب الشيوعي والشورى والاستقلال والوحدة، وحزب الإصلاح الوطني وحزب الاستقلال. وبعد ذلك، نشأت أحزاب أخرى، كالحركة الشعبية والاتحاد الوطني، ثم الاتحاد الاشتراكي، وأصبحت الأحزاب «تتوالد» شيئا فشيئا، حتى وصلت إلى الثلاثين، وهذا ليس خطيرا وإنما الخطير هو أن تبقى هذه الأحزاب مشتة. الجيد هو أن تجتمع هذه الأحزاب على رأي واحد، دون أن تشغل نفسها بالآخرين. فالأحزاب لا يمكن أن تؤدي مهمّتَها الانتخابية إذا أنشأت وحدتها وقطبيتها لمقاومة حزب ما. إذ إننا سندخل في صراع لا يجدي ولا يفيد، بينما نحن أمام صراع أعظم وأخطر وأفيد، هو صراع الاختيار بين البرامج والأشخاص والأحزاب، لإسناد تسيير الدولة إلى الحزب الذي سيختاره الشعب... ولهذا فكل حزب يجب أن يناضل ليكون هو الأول، وهذا من حق كل حزب ومن حق كل تكتل. ولا ينبغي أن تكون مهمة هذه التكلات هي مقاومة هذا الحزب أو ذاك أو مقاومة هذا التكتل أو ذاك. فأمام دقة المرحلة، سنجد أنفسنا منشغلين بالتافه من العمل، عوض الانشغال بالأهمّ، وهو الاختيار الجيد، ولهذا بالنسبة إلي، لا خوف على حزب الاستقلال ولا على أي حزب من التكتلات الأخرى. فحزب الاستقلال هو في الكتلة الديمقراطية منذ أكثر من 20 عاما. والكتلة الديمقراطية لم تنشأ لمقاومة هذا الحزب أو ذاك وإنما للعمل في إطار الأفكار المتماثلة والبرنامج المتقاربة. ولذلك، لم تُحدَث الكتلة الديمقراطية وقبلها الكتلة الوطنية في المنظور السياسي ولا في الساحة السياسية، بل اشتغلت بعملها وتنظيم نفسها وبرامجها وتطوير عملها السياسي وليس بالآخرين..