توقعات أحوال الطقس اليوم الأحد    تفكيك أطروحة انفصال الصحراء.. المفاهيم القانونية والحقائق السياسية    مجموعة بريد المغرب تصدر طابعا بريديا خاصا بفن الملحون    بيدرو سانشيز: إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار الإقليمي    السعودية .. ضبط 20 ألفا و159 مخالفا لأنظمة الإقامة والعمل خلال أسبوع    المجلس الأعلى للدولة في ليبيا ينتقد بيان خارجية حكومة الوحدة ويصفه ب"التدخل غير المبرر"    الأستاذة لطيفة الكندوز الباحثة في علم التاريخ في ذمة الله    الأمن في طنجة يواجه خروقات الدراجات النارية بحملات صارمة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    إسرائيل تتهم البابا فرنسيس ب"ازدواجية المعايير" على خلفية انتقاده ضرباتها في غزة    المغرب أتلتيك تطوان يتخذ قرارات هامة عقب سلسلة النتائج السلبية    أمسية فنية وتربوية لأبناء الأساتذة تنتصر لجدوى الموسيقى في التعليم    لقاء بوزنيقة الأخير أثبت نجاحه.. الإرادة الليبية أقوى من كل العراقيل    وفاة الممثل محمد الخلفي عن 87 عاما    التوافق المغربي الموريتاني ضربة مُعلمَين في مسار الشراكة الإقليمية    من الرباط... رئيس الوزراء الإسباني يدعو للاعتراف بفلسطين وإنهاء الاحتلال    مسؤولو الأممية الاشتراكية يدعون إلى التعاون لمكافحة التطرف وانعدام الأمن    المناظرة الوطنية الثانية للجهوية المتقدمة بطنجة تقدم توصياتها    توقع لتساقطات ثلجية على المرتفعات التي تتجاوز 1800 م وهبات رياح قوية    سابينتو يكشف سبب مغادرة الرجاء    الممثل القدير محمد الخلفي في ذمة الله    ال"كاف" تتحدث عن مزايا استضافة المملكة المغربية لنهائيات كأس إفريقيا 2025    ألمانيا تفتح التحقيق مع "مسلم سابق"    الدرك الملكي يضبط كمية من اللحوم الفاسدة الموجهة للاستهلاك بالعرائش    التقلبات الجوية تفرج عن تساقطات مطرية وثلجية في مناطق بالمغرب    مدان ب 15 عاما.. فرنسا تبحث عن سجين هرب خلال موعد مع القنصلية المغربية    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    المديرية العامة للضرائب تنشر مذكرة تلخيصية بشأن التدابير الجبائية لقانون المالية 2025    توقيف شخص بالناظور يشتبه ارتباطه بشبكة إجرامية تنشط في ترويج المخدرات والفرار وتغيير معالم حادثة سير    علوي تقر بعدم انخفاض أثمان المحروقات بالسوق المغربي رغم تراجع سعرها عالميا في 2024    جلسة نقاش: المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة.. الدعوة إلى تعزيز القدرات التمويلية للجهات    نشرة إنذارية: تساقطات ثلجية على المرتفعات وهبات رياح قوية    الحوثيون يفضحون منظومة الدفاع الإسرائيلية ويقصفون تل أبيب    أميركا تلغي مكافأة اعتقال الجولاني    بطولة انجلترا.. الإصابة تبعد البرتغالي دياش عن مانشستر سيتي حوالي 4 أسابيع    "فيفا" يعلن حصول "نتفليكس" على حقوق بث كأس العالم 2027 و2031 للسيدات        مهرجان ابن جرير للسينما يكرم محمد الخياري    دراسة: إدراج الصحة النفسية ضمن السياسات المتعلقة بالتكيف مع تغير المناخ ضرورة ملحة        اصطدامات قوية في ختام شطر ذهاب الدوري..    بريد المغرب يحتفي بفن الملحون    العرض ما قبل الأول للفيلم الطويل "404.01" للمخرج يونس الركاب    الطّريق إلى "تيزي نتاست"…جراح زلزال 8 شتنبر لم تندمل بعد (صور)    جويطي: الرواية تُنقذ الإنسان البسيط من النسيان وتَكشف عن فظاعات الدكتاتوريين    مراكش تحتضن بطولة المغرب وكأس العرش للجمباز الفني    طنجة: انتقادات واسعة بعد قتل الكلاب ورميها في حاويات الأزبال    كودار ينتقد تمركز القرار بيد الوزارات    مؤتمر "الترجمة والذكاء الاصطناعي"    البنك الدولي يدعم المغرب ب250 مليون دولار لمواجهة تغير المناخ    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    المستشفى الجامعي بطنجة يُسجل 5 حالات وفاة ب"بوحمرون"    "بوحمرون" يخطف طفلة جديدة بشفشاون    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المساء تخترق عوالم المهربين وتكشف المستور في معبر سبتة
موفد الجريدة تقمص دور مهرب مبتدئ وقضى ثلاثة أيام في «مملكة تاراخال»
نشر في المساء يوم 14 - 10 - 2011

قبل بضعة أسابيع، كان مصير رجل أمن يعمل في معبر باب سبتة المساءلة الإدارية، التي قد تقضي على مساره المهني تماما، والتهمة ظهوره في شريط
على الموقع الاجتماعي «يوتوب»، وهو يتلقى رشوة بمبلغ 5 دراهم من بعض ممارسي التهريب المعيشي. لم يُعرف من يقف وراء تسجيل الشريط الذي تُدُوِّل على نطاق واسع، لكن الضجة أعادت مجددا الحديث عن الممارسات غير القانونية التي يتورط فيها منتسبون إلى مؤسسات أمنية وعمومية، في فضاء يفتح شهية الكثيرين، وهو الذي تمرّ عبره سلع تصل قيمتها إلى ملايين الدراهم كل يوم. «فافيا»، التي ورّطت رجل الأمن، ليست إلا الشجرة التي تخفي غابة «الديوانة»، وهي الغابة التي تحاول «المساء»، من خلال هذا التحقيق، سبر بعض أغوارها في رحلة على امتداد ثلاثة أيام، تَقمّصَ فيها موفد الجريدة دور «مهرب» مستجد يسعى إلى ولوج عوالم التهريب، المُغلَّفة بكثير من السرية والغموض.
السادسة صباحا من يوم أربعاء. نحن الآن في الساحة المقابلة لمعبر باب سبتة. أترجل، ومرافقي، من السيارة لعل النسائم الباردة التي تهُبّ تطرد بقايا النوم من جفوننا. حركة متواصلة تدبّ في ساحة لا تتوقف فيها الحركة على مدى ساعات اليوم. سائقو سيارات أجرة ومتسولون وباعة متجولون وحتى بائعات هوى وشاذون جنسيا.. كل هؤلاء شخوص لا غنى عنهم ليكتمل المشهد.
«اليوم هو ثالث أيام العمل في المعبر»، يقول مرافقي، «الكتامي»، وهو مهرّب «تائب»، اشتغل منذ سنوات مراهقته في مجال التهريب المعيشي، قبل أن تزيغ به الأهواء، ليتحول إلى مهرب ممنوعات قضى بسببها سنوات طويلة وراء القضبان. يتابع الكتامي: «يبدأ دخول الحمّالين يوم الاثنين ويستمر إلى الجمعة، لكن نشاط التهريب يبلغ ذروته يومي الأربعاء والخميس، وخلالها يصعب أن تجد موطئ قدم هنا أو في سبتة».
طابور طويل يمتد عشرات الأمتار. شرطي ينهر «المتقاعسين» عن دخول الصف. آخذ مكاني وراء الكتامي، الذي دس خمسة دراهم تحت جواز سفر انمحت كثير من تفاصيل شعار المملكة الذهبي على غلافه الأخضر. ما زالت تفصلنا أزيد من ساعة عن موعد فتح البوابات، وهي فرصة لسماع أحاديث هامشية وحكايات يتناقلها الحمّالون في ما بينهم، وما تزال حكاية الشرطي الموقوف قبل أسبوعين بتهمة الارتشاء تحتمل كثيرا من التفاصيل، كما الإضافات، ومنها ما نُقِل عنه حين سأل عن المصير الذي ينتظره: «يْديرو اللّي بغاوْ.. أنا قْضيتْ الغرَض»، وهو ما يشرحه مرافقي بالقول: «يشاع أن الشرطي الموقوف يملك منزلا من ثلاثة طوابق وقطعتين أرضيتين سجلهما في اسم زوجته، ولهذا فلن يخرج خاويَّ الوفاض من مساره المهني، الذي قد ينتهي إلى الأبد»...
وجوه مألوفة..
يتحرك الطابور ببطء. يتقدم الكتامي أمامي، وبحركة خفية، يدسّ الدراهم الخمسة في راحة يد رجل الأمن. نظرة سريعة على صفحات جواز السفر يأمره بعدها بالمرور، لأجد نفسي في مواجهته. يتطلع إلي بنظرة فاحصة..
«طبْعتي ألشريف؟» يسألني الشرطي، حتى قبل أن أمد إليه جواز السفر؟ أجيبه بالنفي. يشير بيده أن أعود أدراجي لآخذ مكاني ضمن أشخاص آخرين ينتظرون دورهم في صفوف أربعة مخصصة لختم الجوازات. لم تنفع محاولتي الأولى للمرور دون ختم الجواز، كما خططتُ ولم تسعفني ملابسُ أخرجتها من «الأرشيف» ولا قبّعة بالية استعرتُها من الكتامي، ولا حتى لحيتي الكثة التي كنت قد أهملتتُها طيلة الأيام السابقة.. «ملامحك ليست مألوفة.. وعناصر الشرطة يكادون يحفظون الوجوه عن ظهر قلب»، حتى دون حاجة للاطّلاع على جواز السفر، الذي يجب أن يتضمن عنوان تطوان أو كاستياخو أو الرينكون».. يقول مرافقي. وهو معطى سأتأكد منه لاحقا..
لحظات طويلة أخرى قضيتُها وسط صف مخصص للذكور، من مختلف الأعمار، لأعود مجددا إلى الممر الأول وإلى الشرطي نفسه. يتفحص جواز سفري وتأشيرة شينغن.
الأخ صحافي؟ يقول، وعيناه تتفحصان كل نقطة من جسدي، ربما بحثا عن كاميرا أُخفيها وسط ملابسي؟ الضجة التي أثارها زميله قبل أيام تجعل درجة اليقظة مرتفعة. ألحَقُ بسرعة بالكتامي، ونتّجه رأساً عبر ممر حديدي ضيّق إلى نقطة المراقبة الإسبانية. هنا الأمور تتم بسلاسة أكبر، لكنها رهينة «مزاج» رجال الشرطة الإسبان. وقد يحدث أن تغلق الحواجز الحديدية في وجه الحمّالين لفترات قد تقصر أو تطول، وربما تلغى العملية تماما، ولهذا يكون من مصلحة الحمّالين التزامُ الهدوء وتفادي إتيان أي فعل من شأنه أن يستفزّ الإسبان.
الآن، تبدأ جولتنا في هذا العالم العجائبي. هنا مواطنون من كل الأعمار، شباب وعجائز. مفتولو العضلات جنبا إلى جنب مع المعاقين وفاقدي البصر.. الكل هنا يسارعون الخطى إلى وجهتهم، ولكل واحد غايته من القدوم إلى سبتة، لكن قاسمهم المشترَك جميعا هو تهريب السلع، وكل الوسائل «مشروعة» لتحقيق ذلك...
يقودني الكتامي عبر مرتفع صخري إلى المخازن الشهيرة في سبتة، أغلبها مملوك لإسبان، وبعضها لمغاربة سبتاويين. في الطريق إلى المخازن، نتجاذب أطراف الحديث مع نسوة يعملن في حمل السلع.. تقول فاظمة، وهي سيدة في بداية عقدها الخامس بملامح وملابس تشي بكونها جبلية: «مرت علي الآن 10 سنوات قضيتُها في هذه المهنة، وأتذكر أني ولجتُها منذ وفاة زوجي، ولم يكن أمامي إلا أن أعمل حمّالة للسلع حتى أسد رمق أبنائي الثلاثة»، مضيفة: «أحصل يوميا على ما بين 70 إلى 80 درهما، بعدما أخصم «تدويرة» رجال الديوانة، وقد يصل المبلغ الذي أسلمه لهم إلى 20 درهما عن كل حمولة، على أمل ألا يتم حجزها، وفي مرات كثيرة، يكون نصيبنا صفعات أو ركلات.. أما الشتائم فتلك أمور لم نعد نُعِيرها أدنى اهتمام، لأننا صرنا معتادين عليها، ولا مجال للتفريق بين رجل أو سيدة، مهْما تَقدَّم بنا العمر»...
فاظمة، واحدة من آلاف السيدات اللواتي اخترن هذا المجال، قاسمهن المشترك العوز وقصر ذات اليد، ولكل واحدة منهن «حكايتها» مع هذه «المهنة»، كما لكل واحدة أسباب قاهرة تفرض عليها الاستمرار فيها منذ سنوات، رغم الابتزاز الذي يتعرضن له في اليوم أكثر من مرة على يد الجمركيين وبعض المخازنية وأعوان السلطة.
«مي الزوهرة»، التي غزا الشيب مساحات كثيرة من رأسها، واحدة منهن، تقول: «لا أعرف عدد السنين التي قضيتُها في هذا المعبر، لكني ما زلت أذكر كيف كان هناك ممر وحيد فقط بدل الحواجز الكثيرة التي تم نصبُها الآن، وأذكر كيف كنت أؤدي في السابق 5 دراهم ورقية، أشطرها نصفين وأسلم نصفها عند الدخول والنصف الآخر حين أمر بسلعتي، ضمانا لعدم حجزها.. أما اليوم فأنا أقوم برحلتين فقط، لأن حالتي الصحية لم تعد تُسعفني كثيرا، وأستطيع، رغم ذلك، أن أتدبَّر ما يقارب 100 درهم في اليوم، تُخصَم منها «واجبات» المرور، التي يستخلصها رجال الجمارك، حسب الحمولة التي أرغب في إخراجها، فضلا على «التدويرة» التي ينتزعها «المخازنية» أو «المقدمين»، دون وجه حق»...
الصغار أولا..
كيف السبيل إلى أن يصير المرء مُهرّباً يحمل السّلع عبْر معبر باب سبتة؟ وما الذي يُغري في هذه المهنة حتى يتهافت عليها الآلاف من سكان المدن الداخلية، عكس ما كان الأمر عليه في السابق؟
«في ما مضى لم تكن تلجأ إلى هذه المهنة إلا الأرامل أو المطلقات ممن لا يجدن سبيلا آخر لضمان لقمة الأبناء، إضافة إلى الرجال، أما اليوم فقد صارت مجالا مفتوحا أمام الجميع، و«ترامى» عليها الكثير من الغرباء عن المنطقة، وأغلبهم «عْروبية « من مدن داخلية «هبّطو السوق على مّالين لْبلاد» ولا يقنعون حتى إن بعضهم يقضون اليوم بطوله في الدخول والخروج، من السادسة صباحا حتى الحادية عشرة ليلا»، تقول «مي الزوهرة».
يتم اختيار الحمالين عبر توصيات من آخرين سبقوا إلى «الحْرفة»، ويكون الحمّال الذي يقترح حمالين جددا هو الضامن لعدم ارتكابهم أي مخالفات، وغالبا ما يكونون من أبناء الحومة نفسها، حتى يسهل الوصول إلى منازلهم في حال أضاعوا حمولة أو سرقوا بعض محتوياتها. و يبدأ هؤلاء بتحميل سلع بقيمة منخفضة إلى حين التأكد منهم، قبل أن يُكلَّفوا بسلع أكثر قيمة. ويقتصر حمل بعض الأصناف على حمّالين معروفين بجديتهم وبقدرتهم على حماية حمولتهم من أي سرقة أو حجز، وهؤلاء يتخصصون في تهريب الملابس وأساسا السراويل والمعاطف مرتفعة الثمن، إذ يعمدون إلى لبس أكثر من قطعة.. وزيادة في التمويه، يعمدون إلى حمل بعض حمولات من المأكولات قليلة القيمة، كالأرز مثلا، سرعان ما يتخلّون عنها للجمركي في حال حجزها.. ويحصل هؤلاء على أجر قد يفوق الخمسين درهما عن كل قطعة ينجحون في تمريرها...
في بعض الفترات، يشتد الطلب على الحمّالين ويكون أصحاب السلع مضطرين إلى زيادة عددهم، وهذا ما يفسر اللجوء إلى كل من يستطيع حمل الأكياس، حتى لو غاب شرط الثقة، وفي هذه الحالة أيضا، تُعتمَد وسيلة مراقبة يتكفل بها الحمالون الأساسيون، بأن يراقب كل واحد مجموعة صغيرة من الحمّالين الجدد إلى غاية بلوغهم الساحة وتفريغ الحمولات في سيارات الأجرة أو في سيارات نقل البضائع.
عامل الثقة أساسي في العملية برمّتها. وقبل أسبوع، فقط تعرضت سيدة مشرفة على مخزن لسرقة أزيدَ من 4 ملايين سنتيم ونصف، من طرف حمّالة «اختفت» عن الأنظار ولم يعثر لها على أثر أبدا.. لهذا لم يكن سهلا أن أقنع أي أحد ممن توسّلتُ إليهم كي يمنحني حمولة سلعة أسلُك بها بقية المسار، رغم كل الضمانات التي قدّمها «الكتامي» لزملاء سابقين.. تفهمتُ الأمر، لأني غريب عن هذا العالم وملامحي وطريقة كلامي تفضح أني «لا أصلح» لهذه المهمة...
يبدأ توافد الحمّالين على المخازن بمجرد فتح الإسبان البوابات الحديدية، ويستطيع بعضهم أن يقوموا بثلاث إلى أربع رحلات أو أكثر كل يوم، حسب ظروف ال»فيلا»، ويُقصد بها الطابور، الذي قد يمتد إلى مئات الأمتار عبر الأزقة المتفرعة بين المخازن الكبيرة. وخلال كل رحلة، يقوم الحمّالون بتهريب سلع مختلفة لحسابهم الخاص أو ما يصطلحون عليه «تحرير بعض الريالات»، وتتم العملية بدس السلع الخاصة ضمن المواد المُراد تحميلها، لإعادة بيعها أو للاستعمال الشخصي. وقد تكون مواد غذائية أو ملابس أو حتى قنينات كحول،.. المهم ألا يقوم الحمّال برحلة «مجانية»، لكنه يكون معرَّضاً لحجز سلعته، خاصة أن الجمركي يكون على علم بطبيعة السلعة الأساسية التي يحملها وبصاحبها الذي «اشترى الطريق»، ولهذا سيكون محظوظا إن أفلت من قبضة الجمركي واستطاع أن يمرر سلعته الخاصة، دون أن تُحجَز أو يضطر للدفع، حتى يتمكن من إخراجها.
لا تؤدي النساء أي «إتاوة» لدى ولوجهن المعبر، عكس الرجال، الذين يكون عليهم دفع خمسة دراهم لرجل الأمن المكلف بتنظيم الصفوف مرة واحدة فقط. ويروي «الكتامي» كيف أن علبا كبيرة من مسحوق حليب «نيدو» تمتلئ عن آخرها في فترة زمنية وجيزة تفصل بين بدء تشكُّل الصفوف وفتح البوابات، وكيف يتم تكليف بعض المعاونين ب«تصحيح» المبالغ، بتحويلها إلى ورقات من فئة 100 أو 200 درهم، بدل القطع النقدية.. أما أثناء الخروج، فيتساوى الجنسان في «الأداء»، ولكل سلعة يراد تهريبها سومة محددة، حسب الظروف. ويعلق «الكتامي» على هذا قائلا إن الأمر يشبه العرف في هذا المعبر، «فرجال الشرطة لديهم حق استخلاص «الإتاوة» أثناء عملية الولوج لمرة واحدة في اليوم، وللجمارك الحق في تحصيلها لدى الخروج، حتى لو تعددت مرات خروج الحمّال. ولا يمكن، بأي حال، أن يتجاوز أي فريق صلاحياته أو منطقة نفوذه، إلا في بعض الحالات التي يكون فيها المُهرِّب مضطرا ليدفع لرجال الشرطة لدى خروجه، ضمانا لعدم منعه مستقبلا من الدخول إلى المعبر». لكنه يؤكد أن نصيب الجمركيين يكون، دائما، أعلى من نصيب غيرهم. وقد يعمدون إلى حجز السلع بمزاجية ودون مبررات معقولة. ويكفي أن يراقب الزائر للمعبر، لبضع ساعات، ما يحدث في «بيت المال»، كما يُسمّونه هنا، وهي غرفة يُحتجز فيها الحمّالون بعيدا عن عيون المتلصصين، ليلاحظ الأساليب المتّبَعة لابتزاز الحمّالين لحثهم على أن يؤدوا ما ب«ذمتهم» أو يرغموا على تعشير الحمولة أو في أسوأ الحالات تعرُّضها للحجز.
تحكي «مي الزوهرة» بعض المشاهد التي تحدث في هذا البيت الضيّق وتقول: «غالبا ما تتعرض النساء للتفتيش ولمصادرة سلعتهن، حين يشك الجمركي في احتوائها سلعة محظورة، خاصة قنينات الكحول أو بعض الملابس الجديدة التي «تبْرع» الحمّالات في دسها داخل سلع أخرى أقل أهمية، مثل الملابس المستعمَلة أو بعض المأكولات.. ولا مجال لأن تشكو أي واحدة، مفضلة النواح والتحسر على مصير سلعتها. لا أحد يجرؤ على فضح الظلم الذي نتعرض له وإلا كان مصيرنا أسوأ».
رجال من ذهب..
تستفيد الحكومة المحلية بشكل كبير من نشاط التهريب الذي يتم في المعبر، ولهذا تغُضّ الطرف عنه، لأنه أساس اقتصاد المدينة، ولا يمكنها، تحت أي مبرر، تشديد المراقبة على السلع التي تهرَّب إلى المغرب، لأن الأمر كفيل بأن يزيد وضع المدينة الاقتصادي تأزما. وينطبق الأمر نفسه على الجانب المغربي، لأن نشاط التهريب يضمن مورد رزق لآلاف الأسر حتى في أقاصي المملكة، حيث توجد أسواق بأكملها يرتبط وجودها بالسلع القادمة من سبتة.
ورغم أن عمليات التهريب التي ينفّذها الحمّالون الصغار تتم بشكل يومي وتهُمّ أطنانا من السلع، إلا أنها لا تمثل، من حيث قيمتها وعائداتها المالية، إلا جزءا يسيرا مقابل القيمة المضافة الذي تخلقها عمليات التهريب التي تتم عبر السيارات المعَدّة لهذا الغرض. «وحتى المبالغ التي يؤديها الحمّالون الصغار لرجال الشرطة أو الجمارك أو «المخازنية» لا تساوي «شيئا» أمام الملايين التي يتعامل بها المُهرّبون الكبار»، يقول الحاج أحمد، وهو مغربي من سكان سبتة: «الدراوش كيعملو بيهومْ السربيس، أما اللعب الكبير فيتم بين المهربين الكبار وتؤدى فيه مبالغ طائلة عن كل شحنة بملايين السنتيمات، هذه أمور معمول بها منذ عقود وتتم دون أن تترك أي «أثر»، والذي يحدث مثلا أن يدخل أحد المهربين شحنة من خمسة صناديق ويؤدي واجب التعشير عن صندوق واحد فقط، أما البقية فيتم «التفاهم» بخصوصها مع الجمركي وينال نصيبه منها دون حاجة إلى تعشيرها»...
ويضيف الحاج أحمد، الذي قبِل الحديث إلى «المساء» بتحفظ شديد، وهو الذي يملك محلا لبيع الأغطية والأثواب موجهة للتهريب إلى المدن المغربية: «هناك طرق عديدة للتهرب من الواجبات الجمركية، والأمر مرتبط بمافيات منظمة يصعب كشفها، وهذا ما يضيّع على الدولة مبالغ هائلة كل سنة. لكنه واقع يصعب إيجاد حل له، طالما تغيب إرادة حقيقة لاستئصاله، والسؤال المطروح هو: ما المقابل الذي ستوفره الدولة للآلاف ممن يعيشون من هذا النشاط؟ فما يجب تسليط الضوء عليه هو العمليات الكبيرة التي تتم بين المهربين الكبار ورجال الجمارك، لأن التركيز على الحمّالين الصغار لا يجب أن يحجب العمليات الكبيرة التي ينفّذها أصحاب السيارات، وهذا هو الجانب الخفيّ من عمليات التهريب في هذا المعبر».
يشاطر مرافقي، الكتامي، الرأي ذاته، وهو الذي عمل لسنوات رفقة مهرّب كبير، واصطحبه في عشرات الرحلات عبر سيارته من وإلى سبتة، ويقول: «في الحالات العادية، تستمر عمليات دخول وخروج السيارات المُحمَّلة بالسلع طيلة اليوم والليلة باستثناء أوقات استراحة رجال الجمارك الإسبان، ولا تختلف أنواع السلع المهربة خلال اليوم عما يحمله الحمّالون الصغار على ظهورهم، لكن الفرق يكون في الكميات التي تستطيع السيارة حملها. وابتداء من منتصف الليل، يشرع المهربون في تهريب بعض الأصناف الأعلى قيمة، والتي تحتاج إلى وسيلة نقل، مثل بطاريات السيارات وشاشات التلفزة والآلات الكهربائية وقنينات الكحول، وهي عملية لا تُعطى الإشارة إلى بدئها إلا في حال غياب المسؤولين الكبار عن المعبر أو خلودهم إلى النوم، وهي ما يصطلح عليه في قاموس المهربين ب«عْطى الظهر»، وهي فرصة لتحصيل أكبر قدْر من «الإتاوات» في وقت قياسي.
يشرح «الكتامي» مراحل العملية قائلا: «بمجرد «انصراف» المسؤول الكبير، يتم تبادل الاتصالات بين المهربين حول «خلو» المجال، وخلال هذا الوقت، يكون كل جمركي في مساره المعتاد، وهو المسار الذي يختاره «زبناؤه» من المهربين، حسب كل صنف يراد تهريبه، ولا يمكن للمهرب أن يمر من مسار يشغله جمركي آخر وإلا وجد متاعب في تمرير سلعته فيكون مضطرا للدفع مرتين أو إلى العودة من حيث أتى».
كل جمركي متخصص في نوع من السلع، والمهربون يضبطون «إيقاع» العملية بدقة ويربطون علاقات مع جمركي بالذات، وهناك مسار لتهريب الكحول وآخر لتهريب المواد الإلكترونية وآخر لتهريب قطع غيار السيارات.. حتى إن هناك مسارا لتهريب السيارات، التي لا تتوفر على وثائق.. المهم أن يسلك المهرب المسار الذي يشغله الجمركي -الصديق، وإلا كان مضطرا إلى تأجيل عملية إدخال سلعه في حال غيابه لأي طارئ، مهما طالت مدة الغياب ولا مجال للمخاطرة.
لا يمكن لأي كان أن يباشر عملية التهريب بواسطة سيارته الخاصة، دون المرور بعدد من المراحل، ويكون لزاما عليه أن يبدأ بأنواع من السلع الخفيفة، حتى يكسب «ثقة» الجمركيين في ما يشبه فترة استئناس، وقد يحدث إن تُحجَز سلع المهرب عددا من المرات إلى أن يضبط تفاصيل العملية. وتختلف أسعار تهريب السلع عبر السيارات باختلاف أنواعها، فمثلا، يتم تهريب محركات السيارات بمَبالغ تتراوح بين 2000 و3000 درهم للمحرك الواحد، يحصل منها الجمركي مبلغا يصل إلى 700 درهم، تُخصَم منها، أيضا، «تدويرة» لرجال الدرك أو الأمن، المنتشرين على طول الطريق التي تربط بين المعبر وتطوان أو المضيق. أما الملابس المستعمَلة، ففي حال أراد المهرب تمريرها دون حاجة إلى فتح «الكوليات»، يكون مضطرا لدفع 200 درهم للجمركي. وتستطيع سيارة تهريب من الحجم الكبير أن تحمل ما بين 10 إلى 15 «كولية» في الرحلة الواحدة، بمعدل 50 كيلوغراما للواحدة، في حين لا تتعدى حمولة سيارة صغيرة 5 «كوليات» ضمنها اثنتان يتم فتحهما لاستغلال كل الأماكن الفارغة في السيارة.
يتم استخلاص «الإتاوة» أثناء العبور، وهي عملية عاينتها «المساء» مع توقفِ أكثر من سيارة مهرب، إذ يكتفي الجمركي بإطلالة سريعة على الصندوق الخلفي للسيارة، وبحركة خفيفة، يمد يده إلى الداخل ليسحب «التدويرة» ويدُسَّها في جيبه، مع «ابتسامة رضا» للمهرب.
«يكتفي بعض الجمركيين بحجز جواز سفر المهربين المعروفين، ويتم تكليف بعض المعاونين لاستخلاص المَبالغ المرتفعة، وهي عمليات تتم بكل الحرص المطلوب، حتى لا يتم كشفها»، يقول «الطنجاوي»، أحد المهربين المتخصصين في التجهيزات المنزلية ومحركات السيارات، ويؤكد في شهادته: «تتم الأمور بكل حرية، وهذا أمر معروف ولا يخفى على أحد، وحتى الوسائل التي تساعد على المراقبة يتم تغييبها، حتى إنه يتم اللجوء إلى تعطيل الكاميرات المزروعة في المعبر خلال فترات الذروة، حتى لا يكون هناك أي أثر تستند إليه الإدارة في محاسبة المتورطين في تلقي رشاوى». ويتابع «الطنجاوي: «يحدث، في بعض المرات، أن يقع سوء تفاهم بين الجمركي وصاحب السيارة حول المبلغ الذي سيؤديه، وهنا يكون مصير السلعة الحجز أو فرض رسوم لتعشيرها أو، على الأقل، إرجاعها إلى سبتة، وهنا يكون المهرب مضطرا لإفراغ حمولة السيارة وتكليف الحمّالين الصغار بتمريرها». في بعض الفترات، يقول الطنجاوي، «تصدر الأوامر للجمركيين بحجز صنف معيّن من السلع المهربة، وفي حال صدر الأمر بحجز الأغطية مثلا، فستكون الكميات المحجوزة مرتفعة، في حين تستثنى باقي الأصناف كليا، وهو ما يستغله بعض المهربين في إدخال أكبر قدْر ممكن من السلع غير المعرضة للحجز، في حين يكون مصير السلع المحجوزة شحنها عبر سيارات نقل، بعد أن يتم تسجيل جزء منها، طالما لا توجد وسيلة لإثبات كميات السلع التي يتم حجزها في غياب مشتكين يطالبون بسلعهم».
«بوطوبة».. ملك الديوانة!
«أفضل وصف يليق بمعبر باب سبتة هو «الوجه المشروك»، الذي لا يمكن غسله أبدا، يقول مسؤول أمني جالستْه «المساء» على هامش هذا التحقيق، مضيفا أنه «لا يمكن، بأي حال، أن يُطلق وصف معبر حدودي على هذا المكان، لأن الأمر لا يتعلق بمعبر للمسافرين، بل هو معبر لآلاف المتبضعين الذين يقومون يوميا برحلات قد تصل إلى خمسة للشخص الواحد. ورغم ذلك، لا يمكن إنكار وجود تجاوزات لبعض العناصر الأمنية ممن يلجؤون إلى استخلاص ما يسمونه «الفايفا» من الراغبين في الولوج، لكن الأمر يتعلق بحالات معزولة».
«في رأيي، لا يجب أن يقتصر الأمر على المساءلة الإدارية بل يجب أن يتم فتح تحقيق قضائي، ويفرض الأمر وجود طرف مشتكٍ، وهذا ما يغيب في جميع الحالات التي تم كشفها. ولهذا أعيد التأكيد على ضرورة التعامل معها كحالات معزولة»، يؤكد المصدر ذاته متسائلا: «ماذا لو نظرنا إلى الجزء الآخر من هذا «الوجه المشروك»؟ لماذا لا تُسلَّط أضواء وسائل الإعلام على عناصر الجمارك؟ إذ يكفي أن تمضي بضع سويعات في المعبر لتكتشف حجم المبالغ التي يستخلصها هؤلاء، مقابل ما قد يستخلصه رجال الأمن»...
يفتح الحديث إلى أكثر من مصدر في محاولة لرسم صورة عن واقع الرشوة المتفشية في صفوف بعض رجال الأمن وبعض المنتسبين إلى إدارة الجمارك، الباب على مصراعيه لمزيد من الأسئلة الحارقة... ويبدو هذا السؤال أساسيا في الموضوع برمته: لماذا تسلط الأضواء على عنصر أمن ضبطته كاميرا خفية يتسلم خمسة دراهم من مواطنين بسطاء ويتم، في المقابل، التغاضي عن أجهزة أمنية تمارس مهمة ابتزاز الحمّالين وأصحاب السيارات كل يوم بدون سند قانوني يُخوّلهم حق التواجد في المعبر؟ لا أحد هنا يخفي امتعاضه وتساؤلاته المشروعة حول مبررات وجود عون سلطة برتبة خليفة وشرعية استعانته بخمسة مقدمين يحتلون مكتبا خلفيا، علما أنها منطقة حدودية لا وجود فيها للسكان؟ الكل هنا يتحدثون عن «بوطوبة» وسطوته التي يمارسها حتى على بعض المنتسبين إلى أجهزة أمنية أخرى ولا يتوانون في وصفه ب»ملك الديوانة»، الذي لا يشق له غبار، ولم تعد تُغريهم محاولات البحث عن إجابات حول من يوفر له الحماية ويضمن استمراره منذ سنوات طويلة، دون أن تطاله رياح التغيير الدوري، الذي يخضع له، عادة، المنتسبون إلى الإدارة الترابية؟
ثم ما هي المسوغات الممكن تقديمها لتفسير لجوء بعض «المخازنية» ممن يتكفّلون بمراقبة المرتفعات المحيطة بالمعبر من محاولات تسلل بعض الراغبين في الهجرة السرية إلى ابتزاز بعض الحمّالين وحجز سلعهم في حالة رفضهم الخضوع لمنطق الدفع، مستغلين السلطة المعنوية التي تمنحها لهم البذلة الرسمية؟...
سؤال آخر أكثر إلحاحا لا يتردد المسؤول الأمني في إثارته، ويتعلق بعدم تفعيل أساليب مراقبة متقدمة لقطع الطريق على الدخلاء على المهنة، وهو مبدأ يتلخص في التركيز على مكان ازدياد الراغبين في الولوج إلى المعبر، وكل من يثبت عدم ولادتهم في واحدة من المدن القريبة من المعبر يمنعون من الولوج، وهذا من شأنه أن يقطع الطريق على عمليات التزوير الواسعة التي تتخصص فيها عدد من الشبكات ويتورط فيها قياد وأعوان سلطة، ومنهم من توبعوا بتهمة تسليم شواهد السكنى بمَبالغ خيالية قد تصل إلى 7 آلاف درهم، ما يُسهّل عمليات استخراج جوازات سفر بالمئات كل أسبوع: «تصور أن بعض من يمتهنون هذه الحرفة لا يقيمون أبدا في تطوان أو المضيق أو في الفنيدق، إذ بمجرد حصولهم على جواز السفر، يسارعون إلى ترك محل الإقامة الذي يكترونه ويكتفون بالتنقل عبر الحافلة بين مدينتهم الأصلية وبين سبتة، بمعدل رحلتين إلى ثلاث في الأسبوع، لتهريب السلع»، يقول المصدر الأمني.
يصبّ نشاط شبكات توفير شواهد السكنى في مصلحة شبكات أخرى تتخصص في تهريب البشر، وهو ما يطرح مشاكل على مستوى أكبر، إذ تستغله السلطات الإسبانية في ترديد «أسطوانتها» ضد المغرب واتهامه بتسهيل الهجرة غير الشرعية عبر مراسلتها وزارة الخارجية في حال تم ضبط عدد من الحالات. ومع ذلك، يُصرّ المسؤول الأمني على فعالية نقط التفتيش التي يتم نصبها في ممرات ولوج الحمالين، يقول: «من النادر جدا أن ينجح فارّ من العدالة أو راغب في الهجرة السرية في المرور دون أن يتم ضبطه، ولهذا نركز على ضرورة استمرار العناصر الأمنية في مركزها مددا طويلة، رغم ما قد يصحب الأمر من تجاوزات، مثل الحالة الأخيرة التي تم تصويرها، لكنْ، عموما، فالعملية كفيلة بكشف الدخلاء وتساهم في كشف شبكات تحترف عملية تهريب البشر، وهي شبكات معروف أنها تتركز في بعض المدن، خاصة في واد زم أو خريبكة.. تقوم باستخراج جوازات سفر بعناوين في تطوان أو في المناطق القريبة لمن يرغبون في الهجرة، ما يُسهّل مرورهم عبر المعبر، خاصة للقاصرين، وحين يستقرون في سبتة، يتخلصون من كل الأوراق الثبوتية، مستفيدين من تساهل السلطات الإسبانية التي تمنحهم بعض الحقوق الاجتماعية، في أفق تسوية وضعيتهم».
جواز في تبان..
ساعات النهار تمر بسرعة، وفلول الحمّالين تتسابق، تاركة وراءها أكوام الأزبال أمام المخازن. الموعد المسائي لإقفال البوابات يدنو ورجال الأمن الإسبان يحثون المتخلفين على الإسراع لإنهاء يوم والاستعداد لبدء آخر.
آخذ مكاني، مجددا، وراء الكتامي، بعدما تدبّرنا رزمة سلع من بعض الأصدقاء، هذه فرصتي لكي أجرب بعضا من أسرار «المهنة».. نقترب من «بيت المال». صيحات سيدة تأتي من الداخل أرغمها رجال الجمارك على ولوج الغرفة، وصراخ أعلى من حلق جمركية تحاول إسكاتها. «عليك أن تسرع»، يقول الكتامي، «لأن الجمركيين منشغلون بفض النزاع بين الحمالة وزميلتهم». أَمرُّ، خلسة، دون أن يلحظني أي منهم، لأجد نفسي، بعد أمتار قليلة، في مواجهة رجل أمن عند آخر بوابة تفصلنا عن الساحة الخارجية. بدوره، لم يعرني أي اهتمام ولم يسألني عن جواز سفري وعما إذا كنت ختمتُ طابع الولوج إلى التراب الوطني! قلت للكتامي: «أنا الآن في نظر «السيسْتيم» ما زلتُ خارج المغرب، وهذه حكاية أخرى سيكون لها تبعات غدا وكذلك كان»...
الخميس صباحا، أعود، مجددا، إلى طابور ختم الجوازات، أمد جواز سفري إلى الضابط. يرقن بضعة رموز على لوحة مفاتيح سوداء أمامه وينقل نظره بين الشاشة والجواز مرات عديدة، بحثا عن ختم الدخول.
- أين كنت بالأمس؟ ولماذا لم تختم جواز سفرك عند عودتك؟
- لم يسألني رجل الأمن بالأمس، حتى إنه لم يراقب جواز سفري.
تغيرت الألوان في وجه الضابط وسارع إلى نقلي إلى مكتب آخر لضابط أعلى رتبة، شارحا له الوضع:
«آسّي المودن، زعما راك صحافي وعارف القانون، أش خليتي للناس العاديين؟
أنا من يجب أن يسأل هذا السؤال، ومفروض أن رجل الأمن في البوابة هو من عليه أن يراقب الأختام في جوازات السفر...
لم يرقه جوابي وخاض في نقاش مع زميل يشاركه المكتب. بعد لحظات، سيأتيهم الفرج من ضابط آخر خط بقلمه رقم 30 على الصفحة المتضمنة لطابع المغادرة، وهو نفسه عدد أيام الإقامة التي تخولها تأشيرتي. مد إلي جواز سفري دون أن يطبع ختما جديدا. وبإشارة إلى رجل أمن مكلف بالطابور، ولجت المعبر إلى سبتة، وكأني لم أغادرها قط!.. تخريجة ذكية من ورطة وضعتُ فيها فريقا بأكمله، بدليل أني وجدت من ينتظرني في المساء لدى عودتي ليصحبني إلى مكتب ختم الجوازات، هذه المرة لا مجال للعبث.
«لا يعقل أن نختم جوازات الآلاف ممن يلجون المعبر ويغادرونه يوميا، وتخيل كم من الوقت سيلزمنا لإنهاء الطابور وكم موظفا علينا أن نُجنّدهم لهذه المهمة؟» يقول ضابط شرطة، مضيفا: «تصور أن بعض الحمّالين يضعون جوازات سفرهم في تباناتهم ضمانا لعدم ضياعها.. فكيف سيكون ممكنا ختم جواز في هذه الحالة؟!»...
جواب لم يقنعني كثيرا، لأن من يبرر استمرار رجال أمن في مركزهم شهورا عديدة بداعي تذكرهم وجوه آلاف من يلجون المعبر، عليه أن يبرر كيف يسمح عناصره لأشخاص آخرين بالدخول إلى التراب الوطني دون مراقبة هوياتهم، في زمن التهديدات الإرهابية التي يضرب مخططوها دون سابق إنذار.



الإسبان أيضا مرتشون لكنْ «محترَمون»!
مخطئون من يعتقدون أن الرشوة في معبر باب سبتة آفة مغربية بامتياز ويتورط فيها فقط الأمنيون والجمركيون وأعوان السلطة و«المخازنية»، الذين يشير إليهم الجميع بأسمائهم ورتبهم. بل إن حتى جمعية حقوقية في تطوان لم تتوانَ في فضح عدد منهم ضمّنت أسماءهم كتابا أبيض أصدرتْه قبل أسابيع.. في الجانب الآخر من المعبر، تجري عمليات إرشاء بدقة متناهية، و«أبطالها» رجال أمن إسبان وجمركيون أيضا، لكن الفارق أنها تتم بأسلوب راقٍِ لا حاجة فيه إلى ملء السراويل بالقطع النقدية، «حتى تميل بصاحبها»، أو إلى «بيوت مال» تحتجز فيها الضحايا إلى حين الأداء. يشرح الكتامي كيف يتم الأمر بقوله: «الإسبان، أيضا، مرتشون ويحصلون مبالغ مقابل السماح للحمّالين بالولوج إلى المعبر، خاصة في الأوقات التي تُشدَّد فيها المراقبة. وتتم العملية بأن يدس وسطاء لهم ورقات في جوازات السفر تحمل كلها اسما موحدا، وحين يتمكن هؤلاء من العبور، يكون اللقاء مع الوسيط في حانة لا تبعد عن المعبر، أثناء استراحة عنصر الأمن، ليحصل على 20 درهما عن كل رأس»...
وبدورهم، يضطر المهربون ممن يستعملون سياراتهم إلى إرشاء العناصر الإسبانية، وغالبا ما تتم العملية عبر تزويدهم بأصناف من المأكولات المغربي،ة مثل بعض أنواع الأسماك الفاخرة أو حتى بعض القطع من الحشيش المغربي، رفيع الجودة...

الكتامي: «للحشيش مهربون «متخصصون» وضريبة» خاصة
يتذكر الكتامي مغامراته المتعددة في معبر سبتة وكيف ولج هذا العالم وقد عمره تجاوز، بالكاد، السادسة عشرة. «كنت أعبر إلى سبتة في زمن لم يكن المعبر قد أنشئ بعدُ، وكانت هناك مسالك للتهريب إما عبر البحر أو عبر الجبل، وبعد سنوات قضيتُها مُهرّباً للسلع، وجدتُ نفسي ألجأ إلى عمليات تهريب أكثر خطورة لكن أرباحها مضمونة. بدأت بتهريب قنينات الكحول وانتقلت إلى كميات صغيرة من الحشيش وكنت أحصل على مبلغ 500 درهم عن كل كيلوغرام حشيش أنجح في تهريبه، بعدما تمكّنتُ من نسج علاقات مع رجال أمن وجمركيين كانوا يُسهّلون مروري دون تفتيش دقيق».
ويتابع الكتامي قائلا: «إلى اليوم، ما تزال الأمور تتم بالطريقة نفسها ومن يرغبون في إدخال كميات أكبر من الحشيش «يتفاهمون» مع المكلفين بالمراقبة على نصيبهم من العملية، وقد يتراوح بين 25 و30 في المائة من المبلغ الذي يحصله الحمّال، وفي مرات عديدة، يكون نصيبه 100 درهم فقط من أصل 500 درهم، وإلا كان جزاؤه الاعتقال، وفي هذه الحالة، لا يكون أمامه إلا القبول بالأمر، لأن مرور شحنته مضمون مائة في المائة، ل«غياب» تفتيش الكلاب، وأيضا، لأن رجال الأمن الإسبان لا يدقّقون كثيرا في شحنات الحمّالين خلال بعض فترات اليوم، وما عليك إلا أن تذهب إلى مكان عرض السلع الغذائية في ساحات سبتة لتصدم بالأمر وتجد «الجبليات»، المتخصصات في هذه العملية، حيث يتفنّنّ في تهريب الحشيش في السلال المخصصة للخضر أو للألبان.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.