بما أن القارة الإفريقية كانت أرضا مشاعا بين القوى الاستعمارية، تصول فيها تجول بلا رقيب، فقد كان اقتراح بريطانيا، في البداية، أن ينشئ الصهاينة وطنهم القومي شرق إفريقيا في أوغندا، وقدمت الحكومة البريطانية من أجل ذلك دعما ماليا إلى الحركة الصهيونية، لكن هذا الاقتراح لم يرق لرموز الصهيونية، فعندما عقد المؤتمر السابع سنة 1905 تم رفض أوغندا كوطن قومي لليهود، وشكل أرائيل لانغول المنظمة الإقليمية اليهودية التي لها صلاحية اختيار مكان مناسب للوطن القومي لليهود. وخلال هذا المؤتمر، كانت فلسطين مطروحة على طاولة النقاش، نظرا إلى ما تحمله من شحنة دينية، وكانت أعين الصهاينة موجهة إليها منذ البداية لاستغلالها، عبر تحويلها إلى إيديولوجيا تخدم المصالح الاستعمارية للغرب، كما تخدم مصالح الصهيونية. لقد نجح الصهاينة، إذن، في إقناع القوى الاستعمارية، خصوصا بريطانيا، بإنشاء وطنهم القومي على أرض فلسطين، فصدر وعد بلفور المشؤوم سنة 1917، الذي ينظر إلى الرعايا اليهود بعين العطف.. يمنحهم وطنا، كأنه مقتطع من الأراضي البريطانية، إنه حقيقة، كما يسمى وعد «من لا يملك لمن لا يستحق»، وذلك بناء على المقولة الصهيونية المزيفة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». هذا نص الوعد الذي قدمه آرثر بلفور : وزارة الخارجية في الثاني من نوفمبر سنة 1917 عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جدا أن أبلغكم، بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عرض على الوزارة وأقرته: «إن حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى». وسأكون ممتنا إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علما بهذا التصريح. المخلص: آرثر بلفور كما يبدو من خلال الوعد، فإن الحكومة البريطانية متورطة بشكل واضح في صناعة كيان عنصري إرهابي، في وطن يسكنه أهله لمئات السنين. هذه الحقيقة التاريخية هي ما يتلافاها بلفور في وعده للصهاينة، فهو ينطلق بشكل واضح من المقولة الصهيونية: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، لذلك فهو يكتفي بالإشارة إلى «الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين» وليس «الشعب الفلسطيني». هذا، في الحقيقة، ليس هفوة من آرثر بلفور، بل إن الإيديولوجيا الاستعمارية الغربية تقوم على هذا الأساس، حيث نجد في أشهر الموسوعات الفرنسية(encyclopédie universalis) مصطلح «صهيونية sionisme» يرتكز على النظر إلى الصهيونية بوصفها حركة لحل المشكلة اليهودية (مشكلة الشتات، وما أصاب اليهود فيها من اضطهاد). وفي طبعة عام 1943 من موسوعة «دائرة المعارف البريطانية»، تم تعريف الصهيونية بكونها «رد فعل لليهود على اللاسامية الأممية». أما في طبعة 2000 من الموسوعة البريطانية فنقرأ تعريفا (إسرائيليا) للصهيونية، بلغ في صهيونيته حد تسمية فلسطين ب»أرض إسرائيل». وتزيد الموسوعة (البريطانية) فتستخدم اللفظ العبري لتأكيد هذا المعنى، مقدمة كل ذلك وكأنه من المسلمات التي لا خلاف عليها! حيث جاء في الموسوعة: «الصهيونية حركة يهودية قومية تستهدف إنشاء ودعم دولة لليهود في فلسطين «إرتز يسرائيل» (أرض إسرائيل بالعبرية). والموسوعة (العلمية) البريطانية، بهذا التحديد، تقوم بالدعاية المفضوحة للمشروع الصهيوني الذي عمل ولا يزال على ابتزاز دول العالم، بحجة الاضطهاد الذي مورس على اليهود في أوربا، والتغطية على فعلها الاستعماري وإبادة وإجلاء الشعب الفلسطيني من أرضه. وفي هذا السياق كذلك، نجد مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هرتزل يعرف الصهيونية بكونها «حركة الشعب اليهودي في طريقه إلى فلسطين»، وهو التعريف الذي أخذت تكرره مختلف الأدبيات الخاصة بالمسألة الصهيونية. لعل مقارنة بسيطة بين التعريفات التي صاغها مؤسسو الصهيونية لحركتهم وما تصوغه هذه الموسوعات (العلمية) ستؤكد بوضوح أن الصهيونية إيديولوجية استعمارية، نظر إليها -وما يزال- العقل الغربي، ويعمل الوسيط الاستعماري على التنفيذ، حماية للمصالح الاستعمارية الغربية. قد حدث هذا أثناء التأسيس، وما يزال مستمرا حتى حدود الآن، من خلال الدعم الغربي، سياسيا واقتصاديا وعسكريا ، سواء من أوربا أو من أمريكا، خصوصا بعد الطفرة النفطية الكبيرة في المنطقة، فقد أصبحت إسرائيل رأس الحربة في جميع الخطط التي تستهدف المنطقة العربية، باعتبارها وسيطا استعماريا فوق العادة. -3 في الحاجة إلى استلهام فكر التحرر الوطني/القومي لمواجهة التحدي الاستعماري/ الصهيوني إن العالم العربي، اليوم، وهو يؤسس لربيع الديمقراطية والتحرر، يجب أن يكون في مستوى تحديات المرحلة؛ على النخب السياسية الفكرية العربية أن تعلم بأن الأمة العربية تعيش على إيقاع الطبعة الثانية من الاستعمار الغربي للمنطقة، وأن الحديث عن الاستقلال، في ظل الاستيطان الإسرائيلي، هو مجرد أوهام لا علاقة لها بالواقع، فكل المنطقة العربية مستهدفة من طرف المخطط الاستعماري الصهيوني، بدون استثناء. والواجب يفرض، اليوم، أكثر من أي وقت مضى، استعادة فكر التحرر الوطني القومي الذي ساد خلال المرحلة الاستعمارية الأولى، واستطاع طرد أعتى القوى الاستعمارية من المنطقة العربية عبر تضحيات ملايين الشهداء، في مشرق العالم العربي ومغربه بلا استثناء. أما أن نطوي هذا الإرث النضالي، في مرحلة خطيرة من تاريخ أمتنا، فهذه مغامرة غير محسوبة العواقب، ولا يمكن أن نجني منها سوى الخيبات التي رافقتنا منذ إجهاض مشاريع التحرر الوطني القومي التي قادها رجالات المقاومة والتحرير في جميع أقطار العالم العربي. إن النضال من أجل الديمقراطية في العالم العربي، اليوم، لا يجب أن ينفصل عن النضال من أجل التحرر.. هذا أول درس تقدمه إلينا حركات التحرر الوطني/القومي التي لم تفصل يوما بين تحديات الخارج وتحديات الداخل. ولعل الانتقال نحو المنهجية الديمقراطية ودولة المؤسسات في العالم العربي هو المدخل الرئيسي لتحقيق استقلالية القرار السياسي والاقتصادي والثقافي... العربي. لقد كان الكيان الصهيوني، على مدى عقود من الصراع، المستفيد الأول من غياب المنهجية الديمقراطية ودولة المؤسسات، في العالم العربي؛ كما أن قوته في المواجهة كانت ترتبط بالوعي المبكر لقادة الصهيونية بفعالية المنهجية الديمقراطية وهياكل الدولة الحديثة. لذلك استطاع الصهاينة كسب التأييد الدولي لمشروعهم الاستعماري بادعاء منهجيته الديمقراطية وقدرته على بناء مؤسسات الدولة الحديثة؛ لكن في المقابل، خسر العرب الرهان، لأن الأنظمة الاستبدادية الحاكمة في العالم العربي لا يمكنها أن تؤسس للمنهجية الديمقراطية، كما لا يمكنها بناء دولة المؤسسات، بل على العكس من ذلك، فهي لا تدافع سوى عن مصالحها الخاصة، حتى لو كان ذلك على حساب المصالح الوطنية والقومية. إن غياب الإرادة الشعبية، لعقود، عن صناعة القرار السياسي في العالم العربي هو الذي كان يهدد، على الدوام، سيادتنا الوطنية/القومية، وذلك لأن أي نظام سياسي لا يمتلك السند الشعبي والشرعية الشعبية يكون دوما في موقف ضعف، على مستوى سياسته الخارجية، لأن القوى الاستعمارية تبقى دوما مستعدة لممارسة سياسة الابتزاز، وذلك عبر غض الطرف مقابل الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية، وبذلك يكون الابتزاز مضاعفا.. تخسر الدولة في الأخير كل مواردها في سبيل إرضاء هذه القوى الاستعمارية. يتبع... إدريس جنداري - كاتب وباحث أكاديمي