يطرح ديوان «هواء الاستدارة» للشاعر المغربي عبد الغني فوزي لغة شعرية عميقة الحفر في كوامن وغوامض النفس، بديعة في تشكيلها الجمالي والفني وطافحة بأفق شعري غايته «إنعاش الحدس لدى المتلقي، وتحريك سواكن نفسه، وحملها على التفكير والتأمل ثم الاستجابة العاطفية لتنتهي إلى الدهشة والعجب، وإلى النشوة والفهم والتأثر...» (1)، وذلك وفق تصور شعري يروم الكشف والمكاشفة عن/مع الذات في قلقها واغترابها، في توترها وانتشائها، ومع العالم في مفارقاته وتناقضاته، في إبدالاته وارتجاجاته. تصور نابع من كون الشعر الحق والجدير بالديمومة هو الشعر الذي ينصت إلى نبض الحياة والوجود «لأن الشعر إحساس بالحياة، ومحاولة لتشكيل هذا الإحساس في لغة قادرة على أن تأخذنا من الحياة التي نعرفها ثم تعيدنا إليها...» (2). هذا الإحساس المنبثق من الحس الجمالي للغة والعالم، هو الوسيلة التعبيرية التي يتوسل بها الشاعر للإصغاء إلى الذات، في أسمى تجلياتها، والاحتفاء بكينونة الإنسان التي تتعرض قيمها الإنسانية والجمالية للابتذال والتلاشي. إلا أن ترجمة هذا الإحساس تتطلب لغة تسبر أغوار الحياة والكون، ما دامت لغة الشعر بلغة عبد العزيز المقالح مشتقة من الحياة. هذا التصور جعل التجربة الشعرية للشاعر عبد الغني فوزي أكثر انفتاحا على أنساق تعبيرية تمنح النص أكثر من دلالة وتأويل، وموسومة بإيقاعية يغدو معها النص الشعري نشيدا سريا يمتح من نسغ الروح إبداعيته وجماليته، نشيدا مهمته «الرقي بالكائن» إلى عوالم شعرية تحتفي بالباطن وتجسده قولا شعريا محملا بأبعاده الإبداعية والفكرية، بل يمكن القول إنه أي النص «هو المعبر عن هويته الفنية التي تجسد، من خلاله، كينونة الإحساس، ويضحى الشعر كائنا إحساسيا موجودا بذاته...» (3). كل هذا يستدعي الحفر عميقا في تربة هذه التجربة الخصبة رؤية ورؤيا. وفي ضوء ذلك، نستطيع القول إن ديوان «هواء الاستدارة» ينماز ببلاغة شعرية، ميزنها الأساس استبطان ذات مهووسة بالهم الإبداعي ومنشغلة به، متلظية بحرائقه ما دام «نصل الأسئلة» يسكن جسدا مثقلا بعذاباته وشروخه الذاتية والوجودية. فغدت الذات أسيرة كينونة موزعة بين الاحتراق وكون ميت، وبين الفناء والحكاية كاشفة عن جرحها الداخلي، بلغة البوح، يقول: «عفوك إذا احترقت يداي في دورة الفلك المصلوب على كتفي أبدا يسكنني نصل الأسئلة والتراتيل تفيض سهوا ملء هشيم الحكاية...» ص 8 فالذات تعلن احتراقها الإبداعي وعذابها الوجودي عبر مكاشفة صريحة نابعة من إحساس باطني يعري أعطاب الجسد الممتشق حرقة السؤال في عالم لم يزد الكينونة إلا مكابدة وتمزقا. هكذا يستدعي الشاعر الحروف لتكون شاهدا على هذا الاختناق الذي يقف حائلا أمام الذات للعبور إلى فضاءات تقي الكينونة من هذا الاحتراق الجارف، يقول: «فلتشهد الحروف أني وقعها البعيد أشق الفضاء في كوة المنحدر وأمضي شظايا في بريق المواسم ملء احتواء السماء الحزينة...» ص 8 تعبر الذات عن الرغبة في تجسيد كينونتها والرقي بها عبر عملية الاحتراق بغية التخلص من «ذبالة الليالي» التي تسيل على هذا الخواء الكوني حلكة وقتامة، يقول الشاعر في تأمل مبطن: «أكلما اشتعلت رغبة في المطر سالت ذبالة الليالي بين خيوط الصمت والأمكنة أقول ما نسجت ذاكرة الأصابع من احتراق الذاكرة...» ص 10 فصوت الذات يجهر بهذا التشظي وباندحار الرغبة الذي يستوطن ذاكرة تعج باحتراقها الأزلي وتكشف فجائع الذات وتراجيدية الإنسان في الوجود، فبين الاشتعال خصوبة والقول ترتسم ملامح التمزق عبر لغة عميقة الجراح تفضح التوتر والصراع اللذين تعيشهما الذات في علاقتها بالواقع؛ وتجعل القارئ رهين أمكنة ملؤها الصمت والموت والاحتراق. غير أن الذات في بحثها المضني عن كينونتها تصبو إلى الإقامة في «مقام النجم» كمنقذ لها من عالم الهجانة والتفاهة، وكملاذ للاحتفاء بقيم الإنسان والجمال، يقول: «هذا جسدي يتوالد في حضن القرارة كالخيط المتشقق لم لا تأتيني مدارات الفلك رحيل المواسم رأسا حين أتبوأ مقام النجم...» ص 12 إن العوالم الرغبوية تؤطر حركة الموجودات والكائنات والأشياء داخل فضاء النص، وتدفع بالكينونة إلى الانبعاث من جديد لتفصح عن وجودها وتجهر بنزيفها الداخلي المنمى بجرح الحرف المنغرز في «رمل الكف» من أجل معانقة أفقها الممتد في «الفضاءات الجريحة» شرارة وتوهجا.