حين اجتمعت بالأخ محمد في تاغازوت قريبا من أكادير في جنوب المغرب قَبَّل رأسي، وقال: انظر حولك إلى الجبال، لقد كان كتابك "في النقد الذاتي وضرورة النقد الذاتي للحركات الإسلامية" الترياق في وجه سموم العنف. لربما امتلأت هذه الجبال بالملتحين المسلحين، ولكن كتابك ترك بصماته على شباب الحركة الإسلامية في المغرب بردا وسلاما. هل تعلمون أجمل ما في المغرب؟ ليس المناخ بالدرجة الأولى، بل الشعب المغربي الطيب المثقف الودود. إنني أحمد الله على أن انتشرت أفكار النقد الذاتي بين الشباب المغربي ومعها مفاهيم أصلية في التجديد الفكري، ذلك أن هذه القفزة النوعية في فهم معنى اللاعنف في التغيير الاجتماعي يصطدم بالعديد من المفاهيم التقليدية، ولعل أهمها الجهاد. ولكننا بمفهوم اللاعنف نؤسس، في الحقيقة، لمفاهيم الجهاد الفعلية في التغيير السياسي والاجتماعي. من أعجب الأمور أن نظريتنا في التغيير الاجتماعي السلمي حملتها الجماهير من حيث لم نمتلك أداة الأنفوميديا لنشرها، وأتعجب كثيرا كيف حصل هذا. ولعل الجواب عندي هو في انتشار الأدوية والعلاجات واللقاحات وطرق العمليات الجراحية، فلم يعد يناقش الناس حول حبة الأسبرين والتشخيص الشعاعي والعلاج الهورموني وطرق استئصال حصيات المرارة وتثبيت الكسور بالصفائح الحديدية والبراغي، لأنها تحولت إلى علم معترف به ومتعارف عليه. كذلك أفكار السلام التي نادينا بها قبل أربعين سنة، وهاهي تؤتي أكلها اليوم مثل أي شجرة طيبة بدأت من الكلمة الطيبة. قال لي أحد الإخوة في مراكش، بعد أن أبرز لي نسخة قديمة خضراء قد حفرها، درسا وهضما وتشخيطا بقلم الرصاص: إنها نسختي القديمة، تعجبت أنا من انتشار الأفكار وأين يمكن أن تمشي في رحلة أطول من رحلة سمك السلمون إلى المحيط. قال لي أخ فاضل أيضا في السعودية، اجتمع في المعتقل مع شاب قدم إليه كتابي في النقد الذاتي، إنه كان من جماعة الجهاد المسلح، ولكنه بعد أن فرغ من قراءة كتاب النقد الذاتي انقلب رأسا على عقب وبدأ يؤمن بالأسلوب السلمي في التغيير. في الواقع، هذه الحصيلة من انتشار أفكار التغيير السلمي كانت لها أرضية خصبة في المغرب مثل التربة المغربية الرائعة للزرع والورد. وعلينا أن نعنى بهذه الأفكار دوما كي نجنب المغرب وباء العنف، فهو أشد من الطعن والطاعون والإيدز والسارز. حاليا، تأتينا الأخبار من سوريا باعتقالات شتى، ومنها اعتقالات لرجال تيار اللاعنف؛ ففي نهاية شهر سبتمبر 2011م، تجدد اعتقال الدكتور محمد العمار من مدينة نمر من حوران. والدكتور العمار يمثل تيار اللاعنف في مؤتمر المعارضة الذي عقد في دمشق. وأذكره جيدا من الجولان حين جلسنا سوية، فكتبت عشر صفحات بعنوان: لماذا اخترت اللاعنف؟ وجلسنا معا نتناقش في هذه الأفكار. الدكتور العمار طبيب في مدينة نمر، يُداوي الأبدان والعقول، ورائد لأفكار اللاعنف، يشبه الحواري بطرس مع جودت سعيد داعية اللاعنف السوري. أتذكره جيدا بمعشره الحلو، وتفاؤله بالمستقبل، واعتياده زيارة فروع المخابرات في درعا للتحقيق معه حول كلمة قالها في خطبة الجمعة، ودقة ألفاظه، وابتسامته التي لا تغادر محياه وقناعته الراسخة بالخيار السلمي في التغيير. قبل هذا المعتقل، دخل الحبوس البعثية لمدة شهر، وكان آصف شوكت الرأس الاستخباراتي قد دعاه إلى الحوار، فكان رأيه واضحا في نهاية الحقبة البعثية، وهو أنه لا بد من الانتقال السلمي التدريجي إلى دولة الديمقراطية. كان آصف شوكت يهز رأسه بالموافقة مظهرا له الاحترام الكبير، ولكن النهاية جاءت بعد خروجه من مجلس رجل المخابرات، فقد انتهى أمره إلى أقبية المخابرات، وحين اتصلوا بداعية اللاعنف جودت سعيد يدعونه إلى الحوار قال لهم: لقد دعوتم غيري فاعتقلتموه، وإن أردتم حواري فتعالوا أولا لاعتقالي، فسكت الرفاق! وهذا له أكثر من معنى مشاركة تيار اللاعنف في خضم الثورة السورية، كما يدل على أن النظام السوري الاستبدادي لا يستثني أحدا ممن يعارض أكان من تيار اللاعنف أو العنف. ولكن أهميته في النتائج أكثر من الاعتقالات؛ فقد تقود الاعتقالات إلى تثبيط العزيمة وقد تشحنها لمزيد من الكفاح والتظاهر، وهذه هي أهمية نظرية اللاعنف في الثورة العربية الكبرى اليوم، سواء منها تلك التي نجحت أو ما زالت تقاوم كما في اليمن وسوريا. واعترف للقارئ بأنني فوجئت بانتشار مبدأ اللاعنف في الثورة العربية الكبرى من تونس حتى اليمن، بل إلى درجة ترداد بعض الآيات التي كنا نستخدمها منذ ثلاثين عاما عن صراع ولدي آدم، وأن الثاني قال للأول لن أمد يدي بالقتل حتى لو فعلت أنت ذلك. وحاليا، هناك خطر على الثورة السورية من أن تدخل الأرض الحرام باستخدام السلاح، فتخسر خسرانا مبينا. ولكن كيف نفهم فكرة اللاعنف في تأسيسها الأخلاقي والقانوني وأهمية استمرارها في سوريا بهذه الوتيرة، فلا تنزلق إلى المستنقع الليبي. الأساس الأخلاقي لفكرة اللاعنف استطاع غاندي إنهاء الاحتلال البريطاني من الهند بدون أن يموت خمسة ملايين كما حدث في فيتنام أو مليون في الجزائر، ليس هذا فقط بل باحترام الخصم وإعجاب العالم وامتلاء القلب بالإعجاب بهذا الرجل بتطويره طريقة عجيبة محتواها أخلاقي مفاده أن الخصم يمكن هزيمته من داخل ضميره أكثر من قتله أو دحره في ساحات القتال.. إنها طريقة جديرة بالتأمل. يعتمد المحتوى الأخلاقي لفكرة اللاعنف على ضفيرة من سبع أفكار تأسيسية: أولا: العنف هو سعي إلى مصادرة حق الآخر في الوجود كذات مادية، وهذا هو العنف المادي أو كذات فكرية، وهو العنف الرمزي، سواء كان فعلا مباشرا أو رد فعل على عنف الآخر. ثانيا: العنف يبدأ فكرة في الذهن أو شعورا في القلب من تحقير الآخر والانتقاص منه والاستخفاف به واعتباره الأدنى الذي يجب تطهير الأرض من دنسه وينتهي دماء على الأرض وفسادا في البر والبحر. ثالثا: العنف لا يحل المشاكل بل يعقدها أكثر ويولد المزيد منها ولا يقود إلا إلى المزيد من العنف، ولو على المستوى الزمني البعيد؛ والسلم لا يؤدي إلا إلى مزيد من السلم ولو على المستوى الزمني البعيد. ويعلمنا القرآن قاعدة ذهبية في التعامل إن استطعنا أن نصعد إلى مستواها (ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). رابعا: في عالم الطفل، قد نستطيع ردعه كطريقة تربوية فاشلة بضربه، فيتوقف عن ممارسة بعض السلوكيات، ولكنه داخل نفسه لن يتوقف عن ممارستها ما لم يقتنع بذلك ويعود إلى نفس السلوك بمجرد زوال التهديد والعقاب، ويذكر القرآن بهذه السيكولوجية (ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه)، أي أن المنعكس الشرطي النفسي قائم وحال زوال الردع ترجع النفس إلى ممارسة السلوكية السابقة. وهذا يعني في حقل التغيير أن العنف لا يغير لأنه لا يلامس الوتر الذي يجب أن يعزف عليه أهل الإصلاح والتجديد، وهو وتر تغيير ما بالأنفس. بكلمة ثانية تشبه القانون الرياضي: هناك عنف ليس هناك تغيير؛ هناك سلم واقتناع هناك تغيير في السلوك. يتبع...