ليست هناك أحزاب في المغرب، فما يوجد منها لا يعدو أن يكون مجرد هياكل فارغة لا فعالية لها ولا تأثير؛ ويعود ذلك إلى هشاشتها الذاتية وإلى أن جهات نافذة في البلاد تمكنت من احتواء زعاماتها، مما جعل أغلب أعضائها يُجَمِّدون نشاطهم نظرا إلى عدم رضاهم عن المواقف السياسية والممارسات التنظيمية لتلك الزعامات، ولكونهم تأكدوا من أن هذه الأخيرة تتألف من مجرد «أعيان» يعيشون في كنف السلطة لا تهمهم سوى الاستفادة من الريع؛ ومن ثمة فهم عاجزون عن العيش خارج عباءتها. أضف إلى ذلك أنه ليس هناك انسجام بين زعماء الحزب الواحد ولا تضامن بينهم، بل إنهم يكيدون لبعضهم كيدا، مما جعلهم يعيشون في حالة تشتت تجعلهم غير قادرين على التحالف مع قوى سياسية أخرى، حيث إن من لا يتحاور مع ذاته لا يمكن أن يتحاور مع الآخرين. كما أن الثقافة الإقطاعية لزعماء مختلف الأحزاب تحول دون حصول أي تفاهم بينهم لأن كل واحد منهم لا يسعى إلا من أجل مصلحته الخاصة، ولا يحمل همَّ المصلحة العامة في ذهنه، ولا يريد إلا فرض رغباته، متناسيا أن المفروض مرفوض في زمن الثورة المعلوماتية التي تتناقض مع طبيعة العلاقات الهرمية التقليدية عبر خلقها لعلاقات شبكية منفلتة من الخوف واحتكار المعلومة؛ وبذلك فقد تنعقد لقاءات بين ما يسمى ب«الأحزاب المغربية»، لكنها تكون خالية من أي حوار حقيقي حول التوافق على عمل مشترك يدعم قدرتها على الضغط والتأثير الفاعل سعيا إلى تحقيق أهدافها في نظام أكثر ديمقراطية. وعندما يتحدث بعض الناس عن تحالفات بين الأحزاب، فكلامهم لا يكون له معنى، إذ لا وجود عندنا لأحزاب فعلية مستقلة حاملة لمشاريع وبرامج وتعمل جاهدة على توفير الشروط الكفيلة بإنجازها، وبالتالي فلا توجد في المغرب ذاتٌ حزبية مستقلة بالمعنى الحداثي، ممَّا يدفعنا إلى اعتبار التحالف مجرد خرافة لأن الفارغ والرخو والمشتت والتابع لا يتعاقد، فالجهات النافذة في البلاد قادرة على جمع الزعامات الحزبية وعلى التفريق بينها في آن، كما أنها تستطيع أن تفعل بها ما شاءت، وتضعها حيث شاءت، وعلى رأس أي مؤسسة شاءت... إنها على جمعها وتفريقها لقديرة. لا يمكن أن يكون هناك لقاء بين الأحزاب بدون علم المسؤولين وموافقتهم، بل قد يوحون لبعض الزعامات الحزبية بالاقتراب من بعضها، وقد يتم فض العلاقات بينها بإشارة منهم. ثم إنَّ هذه الزعامات تتوصل منهم بتوجيهات تتعلق بالقرارات التي ستسفر عنها تلك اللقاءات، مما جعلهم يتكلمون كلاما أُعِدَّ لهم من خارجهم، بل هناك عناصر من بين زعماء كل حزب تخبرهم بما تمخض عنه الاجتماع... بناء على ذلك، لا تقوم التحالفات الحزبية على اعتبارات إيديولوجية أو سياسية أو مشاريع مجتمعية، بل إنها لا تنعقد إلا بترخيص من المسؤولين وحسب ما تمليه ظروفها... وإذا حدث أن تمَّت تلك التحالفات فالهدف منها يكون هو توزيع المقاعد أو صنع خريطة سياسية معينة تستجيب لإرادة المسؤولين، محليا أو وطنيا. لقد تبين من خلال الانتخابات الجماعية الأخيرة أن الكل تحالف مع الكل، مما يؤكد أنه لم تكن هناك تحالفات سياسية مبنية على اختيارات واضحة، بل كانت المسألة منحصرة في المقاعد، إذ ثبت أن الهدف هو المقاعد لا غير، حيث يفسح كل طرف المجالَ لأصحابه كي يستفيدوا من الريع. وإذا أضفنا إلى ذلك سيادة شراء الأصوات في الانتخابات، أمكنَ القول بأن العملية السياسية في بلادنا هي عملية بيع وشراء، بل إن السياسة عندنا قد أصبحت مجرد تجارة منظمة، مما يحول دون دخول بلادنا التاريخ من باب القيم الكونية. لا يمكن للسلطة أن تصبح طرفا في الأحزاب إلا نتيجة ضعف هذه التنظيمات الناجم عما تعيشه من اختلالات إيديولوجية وسياسية وتنظيمية، مما جعلها عاجزة عن بناء كتلة أو جبهة ديمقراطية صلبة. وأظن أن ذلك شكل عاملا أساسا وراء عدم اضطلاعها بدورها ومسؤولياتها إزاء المجتمع والتاريخ وفشلها في التأثير في مسار التطور السياسي في بلادنا بما يجعلها تحصل على مكانة يُعتد بها لها في الخريطة السياسية وتحقق التراكم المؤدي إلى تقوية قدراتها الذاتية وتطويرها..، وإحداث تغيير حضاري تدريجي في موازين القوى الداخلية في البلاد. ونتيجة ذلك، صارت هشة، بل هشيما تذروه الرياح. علاوة على ما سبق، أسهم كل من أزمة ما كان يسمى ب»الأحزاب الديمقراطية» وأيضا انحراف زعاماتها بقدر كبير في هذا الفشل، فالمفترض أن تكون مؤهلة أكثر من غيرها لإدراك أهمية بناء التوافق اللازم لإقامة كتلة ديمقراطية مؤثرة، لكن للأسف لم تعد زعامات هذه الأحزاب تحترم الخلفية الفكرية لتنظيماتها التي تقوم أساسا على المبدأ الديمقراطي. إنه لا يمكن أن تكون هناك دولة حداثية بدون أحزاب حداثية ديمقراطية. وفي غياب ذلك، لا تكون الدولة دولة ولا تكون الأحزاب أحزابا، حيث سيجد المرء نفسه أمام كيانات لا علاقة لها بالقيم الديمقراطية الكونية، ولا تنسجم مع روح العصر ولا يمكن أن تستمر في الوجود لأنها تتناقض جذريا مع نواميس حياة اليوم.