يقود التفكير في ما يجري حاليا في المغرب إلى طرح السؤال التالي: لماذا فشل ما يسمى ب«الأحزاب الديمقراطية» خلال العقد الأخير في إحداث انتقال ديمقراطي في بلادنا؟ عندما تنفرد فئة قليلة من الأفراد بالسلطة، فإنها تصادر حرية التعبير وترفض الفكر النقدي المتنور والمستقل، حيث لا ترغب في وجود فكر مختلف أو مخالف. وهذا ما يتعارض مع مفهوم الدولة الحديثة الذي يرى أن الدولة لا تقتصر فقط على الحكام ومعاونيهم أو أنها مجرد هياكل مؤسسات، بل يرى أنها تقوم أساسا على تشغيل المؤسسات بفعالية الفئات الاجتماعية؛ إذ في غياب هذه النظرة، لن يعمل الحاكمون إلا على إلغاء حق الأفراد في حرية التعبير والمشاركة. وحين يتساهل الحاكمون ويغضون الطرف، بقصد أو بغير قصد، عن الممارسات المخالفة للقانون وللقيم الكونية، فإن ذلك يدفع قطاعات عريضة من المجتمع إلى مقاطعة العملية السياسية وإلى اللامبالاة نتيجة يأسهم من إمكانية حدوث أي إصلاح. وتؤدي هذه السيرورة إلى شلِّ فعالية مختلف فئات المجتمع والحيلولة دون نموها وتقدمها وإبداعها وقدرتها على تحمل المسؤولية. وفي مقابل ذلك، ترى المجتمعات الديمقراطية أنه من الضروري أن ينهض النظام السياسي على هذه الفئات التي تمكنه من اتخاذ قرارات صائبة وتصون استقراره. يبدو لي أنه ينبغي الاعتراف بأنه على الرغم من الشعارات البراقة التي رفعتها الأحزاب التي تسمى ب«الأحزاب الديمقراطية المغربية»، فإنها لم تستطع التقدم في اتجاه البناء الديمقراطي، بل إنها قد انحرفت اليوم فكرا وممارسة وتراجعت تنظيميا وانطفأ إشعاعها الفكري، فانفض الكل من حول زعاماتها، مما حوَّلها إلى مجرد ديكور سياسي أو ما يشبه دجاجا تم تجميده في ثلاجة السلطة لكي يتم إخراجه في زمن الانتخابات أو كلما شاء المسؤولون ذلك. ويعود ذلك إلى أن زعامات هذه الأحزاب فقيرة معرفيا وغير مستقيمة أخلاقيا، إذ تتكون من مجرد أعيان ضربتهم الهشاشة ويعيشون في أنابيب السلطة من أجل خدمة مصالحهم الخاصة، مما جعلهم ينقلبون على مقررات مؤتمرات أحزابهم ويفرغونها من مضمونها ليتسنى لهم الانخراط في مشروع السلطة والانصياع المطلق لها من أجل المزيد من الاغتناء غير المشروع، إلا أنهم صاروا في نهاية المطاف عبئا على المجتمع والسلطة معا. وتجدر الإشارة إلى أنه لما ظهرت الأحزاب الديمقراطية بعد الاستقلال، التف حولها الشعب المغربي وأيدها، لكن الأخطاء بدأت تتراكم في السنين الأخيرة جراء انسلاخ هذه التنظيمات وانفصالها عن امتداداتها المجتمعية الحقيقية التي احتضنتها ورعتها وأنضجتها وساندتها، مما جعلها تتراجع عن التعبير عن حركة اجتماعية كاملة تنشد الديمقراطية من أجل تنمية شاملة للمغرب، وبذلك تنكرت لمبدأ الديمقراطية الذي تبنته في بدايتها والذي عكس فهمها لدورها كطليعة تمثل حركة اجتماعية واسعة في البلاد؛ وهذا ما جعل دائرتها تتقلص لتتحول إلى مجرد مجموعة من الزعامات المستفيدة من الريع والمتشبعة بفكر السلطة، إذ صار سلوكها يطبعه الاستبداد، وغدت ترفض تعددية الرأي، وباتت تملي القرارات والتوجهات والأفكار على أعضاء أحزابها من فوق بدل استلهام توجهاتها منهم ومن الأجهزة التقريرية لأحزابها التي تشكل أساس قوتها... ونتيجة ذلك، تشابهت الأحزاب وأصبحت كلها إدارية لأن زعماءها هم مجرد «أعيان» أو «قياد» أو «عمال» أو «ولاة» مُعيَّنين على رأسها، وبذلك بدأ «نظام الأعيان» و«القياد» يغزو الأحزاب؛ لكن هذا النظام لم تعد له القدرة على ضبط المجتمع وتأطيره ومراقبته، حيث ليست للأعيان اليوم أية تمثيلية شعبية نظرا إلى مقاطعة أغلبية الشعب المغربي للعملية السياسية، مما جعل استمرار السلطة في العمل بهذا النظام وبالزعامات الحزبية الحالية عاملا من عوامل زعزعة الاستقرار السياسي. لقد عمل النظام السياسي المغربي على الانفراد بالسلطة دون إتاحة فرص حقيقية لتداولها، كما عمل -وما يزال- دوما بسياسة «أهل الثقة لا أهل الخبرة» في اختيار من يشغلون المناصب الحساسة والحيوية، وبالتالي فإن جذور مشاكله تعود إلى تمسكه بتركيز السلطات بكاملها في يد الحاكمين، مما أثر سلبا على القدرة على التطور والتقدم والازدهار، إنسانيا وديمقراطيا... فكل المتاعب التي يعانيها والتحديات التي يواجهها حاليا المجتمع والنظام السياسي المغربيان، على السواء، ما كانت لتكون على هذه الدرجة من التعقيد لو أنهما استطاعا باكرا وضع بعض الأسس الديمقراطية للحكم، مما كان سيساعد أساسا على وجود أحزاب مستقلة وقوية قادرة على تأطير المجتمع وتشكيل قاعدة صلبة للنظام تمكن من إحداث نهضة شاملة وضمان الاستقرار السياسي عبر الحيلولة، حضاريا وديمقراطيا، دون حدوث قطيعة بين النظام، من جهة، والفرد والمجتمع، من جهة أخرى. وتجدر الإشارة إلى أن تفقير الفئات الوسطى وتدميرها سيحرم الأحزاب من الأطر المنتجة للأفكار والتصورات، مما يستحيل معه وجود أحزاب قادرة على الاقتراح وتطوير المشاريع، وهذا ما يجعل الحياة الحزبية والسياسية بدون معنى. ونتيجة إمساك السلطة بكل الخيوط في يدها واختراقها للأحزاب السياسية وإضعافها إياها، فقد أصبحت هذه التنظيمات هشة ولم يعد لها أي دور مؤثر لا في المجتمع ولا في الحياة السياسية. ونظرا إلى الموقف السلبي للسلطة من وجود أحزاب قوية ومستقلة، يحضرني الآن أحد المواقف الديمقراطية التاريخية لأحد رؤساء وزراء بريطانيا السابقين الذي ينبغي أن يشكل درسا لنا، حاكمين ومحكومين.. لقد دخل على هذا الوزير، يوما، أحد مساعديه والفرحة تعلو وجهه، وكان يرغب في أن ينقل إليه خبر وجود بوادر أزمة في صفوف الحزب المعارض لحزبه نتيجة ظهور بعض الخلافات في صفوفه؛ لكن لما علم رئيس الوزراء بتفاصيل هذا الخبر، اختفت الابتسامة التي كانت بادية على وجهه، فعبس وقال: هذه علامة شؤم لأننا لا نصنع قوتنا بمفردنا، وإنما نستمد جزءا منها من قوة معارضينا التي توقظنا وتكسبنا القدرة على التفكير الخلاق والتأهب، وتجنبنا التراخي وترهل عقلنا وتكلسه... كما أن وجود المعارضة هو شرط وجود للديمقراطية، حيث إننا نشكل معا عجلتي عربة الديمقراطية اللتين إن تعطلت إحداهما أو اختلت مالت العربة وفقدت توازنها وسقطت حطاما. وعليه، فإننا لن ننال من غياب المعارضة سوى ضعفنا وانحطاطنا، بل وزوالنا. يمكن أن نستخلص من موقف هذا الوزير الأول أنه لا يمكن لذاتنا أن تتطور إلا عبر التحديات التي تطرحها لنا ذات الآخر المختلف عنا والمعارض لنا، إذ الاختلاف شرط لنمو الذات وتطورها، وبدونه سيضربها القحط والعقم وستتلاشى. أضف إلى ذلك أن رد فعل هذا الوزير الأول يمنح أهمية قصوى للتعددية الحزبية ولوجود أحزاب سياسية قوية ومستقلة على الساحة لإرساء حياة سياسية قائمة على الفهم السليم للديمقراطية التي لا يمكن أن توجد إلا بتوفر شروط محددة، وعلى رأسها أن يصعد حزب ما إلى السلطة بإرادة الناخبين، ويمكن لغيره من الأحزاب المعارضة أن يحل محله إذا فقد الشرعية الشعبية واتجهت إرادة الناخبين إلى اختيار حزب آخر متى اقتنعوا بقدرته على الاستجابة لطموحاتهم.