مراد القادري قيل لنا إن هذه المدرسة سُمّيت في السابق مدرسة الأعيان وإن خيرةَ أطر البلاد من أبناء سلا تتلمذُوا على يدِ أساتذتها «الفرنسويين» قبل أن «تتمغْرب». وقِيل لنا إن عبد الرحيم بوعبيد، كان معلما فيها... وقِيل لنا إن البناية الكبيرة المهجورة التي تُوجد بجوارها وتسمى «دار الناصري»، منزل المؤرخ الشهير صاحب كتاب «الاستقصا»، تسكنُ به الأرواحُ الشريرة، لذلك كنّا ما إن نخرجَ من المدرسة حتى نشْرعَ في رمي هذه البناية بالأحجار، فينكسرُ زجاجُ نوافذها العراقي. وقيل لنا، أيضا، إن البطل العياشي، أحدُ مجاهدي المدينة ورموزِها الشعبيين، مدفون فيها... قِيل لنا الكثير، لكن المدرسة لم يكنْ لها من اسم يُجسّد كل هذه الملاحم والأساطير. وظلَّ اسمُها، على الدوام، «مدرسة السور»، حتَّى لمّا صارت تحمِل اسم «المكي العلوي». بقينا، دوما، أوفياء لحبنا الأول، ولاسمها الأبقى «مدرسة السور». السور، نعم السور، وحده اسمٌ يظل حاضرا في الذاكرة والوجدان، مقترنا بهذه المعلمة التربوية التي ولجتُها في بداية سبعينيات القرن الماضي. أحببتُ فيها «بّا عبد القادر»، بائع الحلوى أمام بوَّابتها، أكثر من أي شيء آخر... أحببتُ حلوى «غزيل البنات»، التي كنا نشتريها ونأكلُها بشبقٍ عجيب. وربمالذلك أسميتُ ديواني الثاني «غزيل لبنات»، خاصة إذا علِمتم أنني أحبُّ أكل الحلوى. أحببتُ فيها تلك الرائحة الطالعة من المطعم... رائحةُ الّلوبيا والعدس والطُُّون المدفون في نصف كوميرة بيضاء... دفعني ذلك الحب إلى أن أكذب على المعلمة وأقول لها إن «الحالة حالة الله» وإنني لا أجد وأسرتي ما نأكل، حتى تُسجِّل اسمي ضمن لائحة المستفيدين من المطعم المدرسي!... فيها هاجمني الحبُّ الأول... والرعشةُ الأولى... وصيامي الأول. فيها أعلنتُ تضامني الأول مع أول كائن حي «عنزة مسيو سوغان» ضد الذئب... لأكتشف، في ما بعد، أن الحياة َ خارج مدرسة «السور» تنغلُ بالذئاب... فيها تعلمت أسماء بعض الفواكه.. دون أن أعرفَ الطريق إلى مذاقها... فيها أُشبعت ضربا كي أحفظ جدول الضرب... فيها شاهدت عمليات جلد وتعذيب باذخة، تَعرّض لها زملاء أعزّاء، دون أن يكون لهم أي ذنب في أحداث 17 أو 27 أو37. ذنبهُم الوحيد أنهم لم يستظهروا دروسهم عن ظهر قلب، فكادَ أن يسكتَ لهم القلب من جراء الضرب. فيها قرأت لأحمد شوقي وأحمد أمين، لعبد القادر المازني ولمصطفى لطفي المنفلوطي، ولم أتعرف فيها على أيِّ كاتب مغربي، فقد كان مقرَّرُنا الدراسي مشدودا آنئذ إلى المشرق العربي ورموزه من الكتّاب والأدباء. فيها هاجمني داء ُالشّعر وقال لي: «اكتُبْ». فكتبت قصيدتي الأولى. على طاولاتها، أعترف أنني قتلتُ الكثير من القمل، الذي كان يسكن الرأس... وعلى نفس الطاولات، أيضا، أعترف أنني رسمت قلوباً يخترقُها سهم، دون أن أعرف معنى ذلك إلا في ما بعد... إلى حد اليوم، ما زالتْ هناك بعضُ الروائح التي تأخذُني قسرا إلى مدرستي الأولى: رائحة الطباشير والمداد والأحذية العطنة وروائح أخرى تجعلُ الأستاذ يصرخ: «البَّاسَرْ انشا عالله»... توفِِّر مدرسةُ السور منظرا بانوراميا فريدا، أقسامُها العُلوية تتيحُ لك أن تشاهدَ مقبرة المدينة وحركية الموت والحياة فيها وأن ترى المحيط الأطلسي وعبورَ القوارب في اتجاه نهر أبي رقراق، بعد رحلة صيد في البحر... تتيحُ لك، كذلك، أن ترى، من مقعدك الدراسي، «الأوداية» وضريح حسان... لكل ذلك، كنا نتسابقُ، في بداية كل موسم دراسي، إلى حجز مقاعدنا قربَ هذه النوافذ، حتى نهرب بخيالنا من الدرس ونشُردَ به إلى الأعالي... هناك، حيث بمقدوره أن يكون حرا طليقا، يمرح بفي المقبرة.. أو يلهو على رمل شاطئ سلا، يجمع «الحناقريش»، فيما المعلم يبحبح حنجرته ليقول لنا: Miki joli Miki.. Mina jolie Mina....