بزيارتك لإقليم ميدلت، عاصمة التفاح، أو «باريس الصغيرة»، كما يسميها البعض، يلفت انتباهك انتشار الأجانب بشكل كبير، حتى في الفترة التي تعرف فيها السياحة نوعا من الركود. يعيشون في المداشر والقرى المجاورة للمنطقة. يتجولون بين السكان، في مشهد يشي بالانسجام التام بينهم وبين السكان المحليين. يمارسون عددا من الأنشطة، كتدريس اللغة الفرنسية للمبتدئين أو العمل في مجال التطبيب أو الصناعة التقليدية المحلية وتقديم الخدمات بالمجان وغيرها من الانشغالات، فيوحي إليك المشهد المتناغم وكأنك تعيش في قرية أوربية... وهنا، يوجد أيضا معبد كبير يعيش فيه عدد من رجال الدين، بمن فيهم الرهبانان، اللذان نجوا من أحداث «تبحرين» في الجزائر سنة 1996 التي قتل فيها 7 رهبان فرنسيين، واختاروا الاستقرار في ميدلت، وهو ما لم يكن اعتباطهم، لسبب بسيط هو أنها تُذكّرهم بدير تبحرين، التي كانوا قد استوطنوا بها في الجزائر. «جون بيير»، هكذا نادت فاعلة نشيطة في المنطقة -التمست عدم ذكر اسمها- على أحد الرهبان في مدخل المعبد. لهذه السيدة إلمام بالكثير من الأمور في منطقتها. يبدو، من ملامح وجهها، أن علاقتها جيدة بالرهبان الناجين من أحداث تبحيرين في الجزائر، في محاولة منها مساعدتنا في إنجاح المهمة الصحافية ونفض الغبار عن حياة هؤلاء الرهبان، بعد المعاناة التي دفعتهم إلى ترك البلدة التي كانوا يعيشون فيها. مرة أخرى، نادت بصوتها الرنان، ذي النبرة الهادئة: «جون بيير».. في الوقت الذي كان شخص آخر يتحدث إلى على متن سيارة من نوع «كات كات» في باحة المعبد الضخم، قائلة بلغتها الفرنسية السلسة: «لن نأخذ من وقتك الكثير». لم يتردد جون بيير في الإجابة. ترك ما كان منشغلا به وهرول مسرعا، بكل حيوية، نحو السيدة المعروفة بينهم. أخبرته الأخيرة أن الصحافة تريد مقابلتهم... حاول جون بيير الاستفسار حول ما إذا كانت الزيارة تتعلق بالأحداث التي عاشوها في الماضي في الجزائر. قاطعتُه وهو ينظر بنظرات تثير الكثير من التساؤلات، فسألَنا عن أسباب الزيارة والغرض منها، واشترط الحديث عن أي شيء ما عدا الرجوع إلى الخلف أو النبش في الوقائع المؤلمة، قائلا: «نجهل من كان وراء تلك الأحداث ولا نعرف حتى لماذا تم استهدافنا وقتل سبعة منا»، مضيفا أن الحكومة الفرنسية طلبت منهم «عدم طرح هذا الموضوع من جديد»، في إشارة واضحة إلى ضرورة عدم كشفه عن مكان تواجده الحالي. تنفّس الراهب الصعداء وقدّم اعتذاره عن عدم تلبية الدعوة، رافضا الحديث عن الأحداث التي قال عنها بصوت خافت يلامس حدود الهمس: «لقد عانيْنا ما فيه الكفاية» وأنهى كلامه، بحرقة كبيرة: «لا يمكن الحديث عن هذا الموضوع فقط لقول أي شيء.. نحن لا نعلم من قتلهم»... لم تتردد رفيقتنا في إخبار «المساء» بما تعرفه حول حياة الرهبان، بحكم عملها الجمعوي ومشاركتها في الكثير من الأنشطة المحلية. أول ما استهلّت به حديثها هو تأكيدها أن ما وقع لهم من أحداث «يلفّها الكثير من الغموض»، مضيفة أن أصابع الاتهام كانت مُوجَّهة، بالدرجة الأولى، إلى الجماعة الإسلامية المقاتلة في الجزائر وأن الشكوك تحوم، أيضا، حول إمكانية قتلهم بدون قصد، حسب ما تتوفر عليه من معلومات المقربين منهم، مستغربة في نفس الوقت حينما قالت: «إذا كان هذا الاحتمال صحيحا، فلماذا فُصِلت رؤوس الضحايا عن الأجساد؟ هل لطمس آثار الجريمة الشنعاء وعدم البحث عمّن قتلهم وعن الوسيلة التي تمت بها العملية بعد اختطافهم؟»... تابعت كلامها، بصوت حزين، موضحة أنه قد تم دفن الرؤوس المقطوعة في قبور بسيطة على شكل كومة رمل صغيرة، نُحتت عليها شواهد من الرخام الأبيض، تحمل اسم المدفونين فيها، تغطيها أشجار السرو، ولم تدفن في هذه القبور. علي، شاب يظهر من خلال ملامحه أنه جد متحمس للكلام. ذو بنية جسمانية نحيفة. أخبرنا أنه يتحدر من نفس الدوار الذي يوجد فيه المعبد. لم يتردد، هو الآخر، في سرد كل ما يعرفه عن حياة الرهبان، الذين شاءت أقدارهم أن يحتموا بدفء وتسامح سكان المنطقة. قال علي ل»المساء» إنه، حسب المعلومات التي حصل عليها بحكم علاقاته مع الرهبان الآخرين المقربين من الناجين من الأحداث وكذا لعلاقاته مع «الأخوات»، وهو الاسم الأكثر تداولا في المنطقة عن الراهبات، إن الحكومة الفرنسية كانت تعلم أن الرهبان الفرنسيين كانوا مستهدَفين من طرف جماعات إرهابية وحذّرتهم، في كثير من المناسبات، إلى ضرورة مغادرة المكان، تحسبا لوقوع أحداث أليمة، بل إنها كانت تُلحّ عليهم بترك المنطقة في أسرع وقت، غير أن الرهبان استبعدوا كل التنبؤات السيئة، من قريب أو بعيد، وأصرّوا على البقاء، على اعتبار أنهم كانوا يعيشون في دير تبحيرين، بعيدا عن كل الإشاعات ولا تربطهم أي علاقة عداوة مع الجماعة سالفة الذكر. أوضح علي أن رجال الدين كانوا على علاقة طيبة مع ساكنة تبحيرين ويفتخرون بتواجدهم بينها، كما كانوا يقدمون لهم خدمات إنسانية، فمن بين هؤلاء الرهبان أطباء ومهندسون وأطر عليا، خاصة أن أغلب القاطنين ينتمون إلى فئات معوزة ويقاسمونهم الأفراح كما المآتم. إلا أن رياح التغيير هبّت بدون إنذار، فحوّلت القرية إلى ساحة مجزرة إنسانية في حق الضحايا، وشاءت رياحها أن تعصف بمن نجوا من الوقائع إلى مكان بعيد. واصل علي كلامه بتلقائية مفرطة وتكلم بصوت شبه خافت، وعيناه تطوفان حول المعبد، الذي لم يكن بعيدا عنه إلا بأمتار قليلة وقال: «هناك من يعتقدون أن تواجد الرهبان والراهبات له انعكاسات سلبية كبيرة في التأثير على سلوكات الساكنة وتخوفهم من أن يكون الهدف من تواجدهم هو التنصير»، خاصة أن تعاملهم كان جيدا مع الأطفال. صمت لوهلة، تم واصل حديثه بطريقة توحي لك وكأن الشخص يتحدث عن أمور لا يجب الكشف عنها. بقايا تبحيرين لم يتبق من الذكريات الحية التي ما يزال الرهبان يعيشون على أطلالها سوى راهب واحد بعد وفاة أحد الناجين من الأحداث الدامية، قُدِّر له أن يموت في وطنه الأصلي في فرنسا، بعدما هزمه المرض وأصابته نوبة صحية نُقِل إثرَها، على وجه السرعة، إلى دولته وبقي هناك في المستشفى تحت العناية المركزة، ولم تمر إلا أيام قلائل حتى وافتْه المنية سنة 2008، تاركا وراءه ذكرى واحدة لماض كتبوه بمداد أسودَ في محراب المعبد. الوجهة.. أجمل بلد لعل الأصداء الإيجابية حول الاستقرار والأمان في المغرب هي التي دفعت هؤلاء الرهبان إلى اختيار المملكة كوجهة لهم، بعيدا عن الصراعات التي تعرفها عدد من البلدان الأخرى، فكانت القِبلة الأولى العاصمة العلمية فاس، إلا أنهم سرعان ما غيّروا الوجهة بعد عامين فقط من الاستقرار فيها، لأسباب مجهولة. لكن قرار المغادرة لم يكن بالنسبة إليهم أمرا سهلا، خاصة أنهم لا يعرفون الشيء الكثير عن المناطق المغربية الأكثر هدوءا، لتكون «باريس الصغيرة» الوجهة النهائية. ولم تخيب ميدلت أملهم فاستقبلتهم بذراعيها المبسوطتين ومنحتهم ما لم تمنحه لهم أي منطقة أخرى، فاستقروا في المعبد المتواجد في المنطقة لممارسة ديانتهم وشعائرهم الدينية، منذ سنة 2002 إلى اليوم. ومن بين هؤلاء الراهبان اللذان نجيا من الأحداث: طبيب عام ومهندس. أعاد هذا الأخير ترميم البناء بتصميم جديد وحوّل جزءا منه إلى غرف خاصة بهم وجانبا آخر عبارة عن نزل للزوار الأجانب، الذين يتوافدون على المنطقة في كثير من المناسبات، لإحياء الطقوس والشعائر الدينية. تبحيرين المغرب لم يكن الحديث حول أحداث تبحيرين مسألة سهلة بالنسبة إلى الرهبان الفرنسيين الناجين من المجزرة، لأنها تُذكّرهم بماض أليم، لم يضعوه يوما في الحسبان، بعدما كانوا يعيشون في أمن تام في منطقة تبحيرين في الجزائر منذ سنوات، وكانوا منسجمين مع الساكنة البدوية في دير منطقة تبحيرين، قبل أن تعصف بهم الأحداث الدامية، في عام سنة 1996، إلى البحث عن مكان للأمن والاستقرار، بعد أن قُتِل سبعة منهم في ظروف غامضة ولأسباب أكثر غموضا، زعزعت الرأي العامّ في شتى بقاع العالم وخلفت ردودا حول الجهة التي كانت وراء هذه المجزرة الإنسانية في حق الرهبان السبعة. لم يكن قرار مغادرة منطقة تبحيرين خيارا بالنسبة إلى الناجين بأعجوبة من الأحداث، بل كان أمرا محتوما، بعدما ازدادت الضغوطات من جهات مجهولة، تُهدّدهم بقتل الأحياء منهم، ما استحال معه البقاء بسلام في تبحيرين، التي ألِفوا كرم سكانها وطيبوبتهم، فتضاربت الآراء بين الراغبين في البقاء والمقتنعين بضرورة الرحيل إلى بلد آ خر. صيام التضامن قد يستغرب الإنسان العادي إذا علم أن الرهبان الذين يتآلفون مع المسلمين يصومون معهم شهر رمضان احتراما لهم ولديانتهم، بل وبدل ثلاثين يوما يستمرون في صيامهم أربعين يوما... تقول مقربة من الرهبان إنهم يصومون شهر الصيام تضامنا مع المسلمين، ويلتزمون بالإفطار مع موعد آذان المغرب، حسب ما أخبروها بذلك شخصيا، أثناء زيارتها لهم داخل المعبد. ولم تنس السيدة المذكورة وصف أدق التفاصيل، قائلة إن المعبد يضم صور الضحايا السبعة ورسالة كتبها أحدهم قيد حياته، ترجموها إلى خمس لغات أجنبية، بما فيها العربية فاطّلعت على محتواها. تقول الرسالة، حسب ما أفادت محدثتنا، إنها توصيهم بضرورة التحلي بخصلة التسامح بين الديانات، رغم كل الظروف المأساوية التي عاشوها... رجال وآلهة... هذا هو عنوان الفيلم السينمائي الذي نال الجائزة الكبرى لمهرجان «كان»، السينمائي الدولي، لمخرجه الفرنسي كزافيي بوفوا، وتُرجِم إلى عدة لغات. تدور أحداث الفيلم حول القصة الكاملة لحياة الرهبان. وقد جسّد الفيلم طريقة قتل سبعة منهم من قِبَل الجماعة الإسلامية المسلحة وكيف تم اختطاف عناصر أخرى منهم واستنطاقهم، حيث أُجبِروا خلالها على تسجيل أشرطة صوتية تحت طائلة التهديد والترهيب، بهدف إطلاق سراح أفراد تدعي الجماعة الإسلامية المقاتلة أن فرنسا تحتفظ بهم كرهائنَ لديها، وتطالب منها إطلاق سراحهم، من خلال مقايضتها بالرهائن الفرنسيين. يحكي الفيلم، الذي تم تصويره في المغرب وسط مناظر خلابة في الأطلس المتوسط، والذي تزامن مع عيد الأضحى، أيضا، عن الحياة العادية للرهبان في كنيستهم، قبل ذبح سبعة من رجال الدين وإخفاء جثثهم، التي لم يتبق منها سوى الرؤوس، وينقل طريقة تعاملهم مع سكان منطقة تبحيرين في الجزائر بنوع من التآلف والتآزر وكيف تحولت حياتهم إلى جحيم...
فرنسا تطرح من جديد قضية الرهبان عبر تجنيد وسائل الإعلام الدولية رغم الاهتمام الذي أبدتْه وسائل الإعلام الدولية تُجاه قضية مقتل الرهبان الفرنسيين ورغم التصريحات التي أدلت بها جهات مسؤولة من الجانبين الفرنسي والجزائري، المتهم الأول في مذبحة تبحيرين، فإن الموضوع ما زال يلفّه الكثير من الغموض والسرية. وقد تساءلت الكثير من الجهات الدولية حول الأسباب الرئيسية التي دفعت فرنسا، في السنة الماضية، إلى إعادة طرح ملف الرهبان المذبوحين في مجزرة تبحيرين في الجزائر، بعد الشريط الذي عرضتْه قناة «كنال بليسْ» ووثقته بشهادات من سمّتهم الجماعة الإسلامية المسلحة «الجيا»، تتهمهم فيها بالتورط في مقتل الرهبان الفرنسيين. ويطرح إعادة فتح هذا الملف الكثير من الجدل، في ظل إصرار الدولة الفرنسية على توريط الجيش الجزائري. فأحيانا تؤكد وسائل الإعلام العالمية أن الجماعة الإسلامية المسلحة هي صنيعة المخابرات الجزائرية، وهي المتهم الرئيس في مقتل الرهبان السبعة، باتفاق تام مع المؤسسة العسكرية الجزائرية، وأحيانا أخرى، يقولون إن الجيش أخطأ قتلهم بواسطة طائرة «الهليكوبتير». وهذه الرواية الأخيرة، التي رجّحها الجنرال الفرنسي فرنسوا بوشوالتر، حسب تصريحاته أمام قاضي التحقيق الفرنسي، المتخصص في قضايا الإرهاب، اعتبرها المهتمون بالملف «مغلوطة»، على اعتبار أن الجيش أعطى أوامر صارمة بضرورة حماية الرهبان ومنع أي قصف في مراكز الجماعات المسلحة، التي يحتمل أن يتواجد فيها الرهبان.