في سنة 1994 شهدت محكمة الأحوال الشخصية بالإسكندرية دعوى قضائية غريبة: رجل ينفي نسب ابنته إليه ويتهم زوجته بخيانته مع أحد العفاريت! كانت القضية مثيرة وصادمة في الآن نفسه.وقد وصفتها إحدى الجرائد بأنها «أغرب دعوى تعرض أمام المحاكم المصرية». الزوج الذي يشتغل أستاذا استند في دعواه على اعترافات زوجته وبعض الفتاوى الفقهية.وقد حكى لهيئة المحكمة أن زوجته كانت تخبره باستمرار أن جنيا يأتيها دوما بين اليقظة والنوم ويضاجعها بقوة.كان يفعل ذلك يوميا تقريبا، متجسدا في كل مرة بهيئة مختلفة.وأضاف الزوج بأنه كلما كان يرغب في مضاجعة زوجته كانت تمتنع بحجة أنها مرهقة إلى أن فاجأته بحملها. قبل أن يؤكد لهيئة المحكمة بأن ما وضعته امرأته ليس من صلبه، بل من صلب العفريت. لم تكن هذه القصة سوى البداية.بعد ذلك عرضت قضايا أخرى مماثلة على المحاكم المصرية. إحداها رفعتها امرأة تطلب الطلاق من زوجها لأنه تزوج عليها بجنية وأنجب منها ابنتين. استمعت المحكمة إلى الزوجين والشهود، وفي الأخير حكمت بالطلاق بناء على الضرر الذي لحق بالزوجة!. ما حدث في مصر لم يكن سوى عينة بسيطة مما تعرفه دول أخرى، لكن لم يصل الأمر إلى القضاء، وإن كانت في المغرب محكمة خاصة يقصدها العديدون لمقاضاة الجن. المحكمة يرأسها شمهروش، كما يعتقد العديد من المغاربة، ومهمتها الفصل في النزاعات العالقة بين الجن والإنس. إذ «كما أن للإنس محكمته فللجن أيضا محكمته حتى لا يعتدي أي جني على أي إنسي» يقول أحد سكان المنطقة القريبة من إمليل حيث يوجد ضريح شمهروش. مثل هذه المعتقدات حول علاقة الجن بالإنس تربك ميكانيزمات الخطاب العقلاني، فيضطر إلى إقصائها، معتبرا إياها أحد تجليات التخلف أو من بقايا معتقدات خرافية ما تزال تتحكم في الذات المغربية. فيما يجزم المؤمنون بها بواقعيتها، مستدلين بترسانة من الأدلة والتجارب المدعمة. كيف نفسر إذن هذه المعتقدات؟ هل هي مجرد أوهام ومعتقدات خرافية تكرس الجهل والتخلف كما يقول الرافضون لها؟ أم هي تجارب واقعية عاشها أشخاص أسوياء وليسوا مرضى نفسيين؟ الرأي و الرأي الآخر الجدل حول هذه الظاهرة يأخذ عادة منحنيين: منحى أول يثار فيه النقاش بين أصحاب الخطاب العقلاني وأصحاب الخطاب الديني حول حقيقة وواقعية مثل هذه المعتقدات، ومنحى آخر يتواجه فيه أصحاب الخطاب الديني أنفسهم حول شرعية أو لا شرعية معاشرة الجن للإنس. في المستوى الأول، يرى أصحاب الخطاب العقلاني، الذي لا يعترف سوى بالتجربة والمنطق، أن الحديث عن شيء اسمه معاشرة الجن للإنس يصنف في خانة الدجل والشعوذة أو هو مجرد تمثلات لاعقلانية للواقع وممارسة باتولوجية لأشخاص غير أسوياء. من هذا المنظور، يرى محسن بنيشو، الاختصاصي في الطب النفسي والعقلي، أن معاشرة الجن للإنس لا يمكن الاعتراف بها، مؤكدا أنه «تتوافد على أطباء النفس حالات من هذا القبيل. لكن هذه الأمور تظل بالنسبة إلينا، من الناحية العلمية، بين قوسين. هؤلاء الذين يقولون إنهم «مسكونون» يكونون غالبا مصابين بأمراض ذهانية، خاصة الأمراض الذهانية غير المعروفة أو الظاهرة، أي أنهم يبدون أشخاصا أسوياء». ويوضح بنيشو أن «الفكر المجتمعي يصف دائما هذه الحالات بأن الإنسان «عندو التقاف» أو «مسحور» أو «ساكنو جن»، إذ أن الإنسان المريض ينسب ما يعانيه إلى الجن عوض الاعتراف بأنه مريض نفسيا. إنه يتخذ من هذه التأويلات وسيلة دفاعية. لكن من الناحية العلمية، تبقى هذه الحالات مجرد هلوسات سمعية، ولا يمكن الإيمان بهذه المعتقدات، رغم أن الجن مذكور في القرآن». نفس الرفض نصادفه لدى علماء الاجتماع. إذ يؤكد الباحث السوسيولوجي حسن قرنفل مثلا أن «الوقائع والأحداث الملموسة تؤكد أن هذه الأمور لا أساس لها من الصحة». ويفسر قرنفل ذلك بأن «المخيال العربي محمل بثقافة الجن، إذ يحضر كقوة تعاقب الإنسان أو تكافئه»، مشيرا إلى أن «الأوساط الفقيرة اجتماعيا أو الفقيرة ثقافيا هي التي تتفشى فيها مثل هذه المعتقدات»، وإن كان يظن أن هذه الظاهرة «أصبحت في تراجع -رغم ما يقال- مقارنة بما كانت عليه في السابق». هذا الموقف يرفضه أصحاب الخطاب الديني.إذ بالنسبة إلى هؤلاء لا يمكن إنكار معاشرة الجن للإنسان استنادا إلى العلم أو المنطق وحدهما لأن الاثنين معا قاصران عن تفسير ما هو غيبي. فمثلا يرى المعالج القرآني أحمد الزلماضي أن «العلماء لا يقبلون فكرة معاشرة الجن للإنس لأن المنطق لا يقبل بذلك، كما يقولون، لكن هذه الظاهرة في حد ذاتها لا تتأسس على المنطق أصلا». قبل أن يضيف «المشكل أننا نقع دوما ضحية تصورات قبلية تحاول باستمرار أن تصور ما نفعله بأنه شعوذة ودجل، فيما نحن بعيدون عن الدجل والشعوذة ونحاربهما. أنا مثلا أعالج الناس بالقرآن، وهذا ثابت شرعا، ولكن السلطات العمومية تصنفني في خانة المشعوذين، مع أن رجالا من السلطة يأتون إلي كي أعالجهم. ونفس الأمر أيضا بالنسبة إلى الأطباء العضويين والنفسيين، الذين يعتبرون ما نفعله دجلا وشعوذة مع أن لي أصدقاء أطباء يلتجئون إلي في مسائل تتعلق بالمس ويأخذون بنصيحتي، لكن يبقى ذلك في إطار شخصي، وخارج هذا الإطار يتم إقصاؤنا». هذا الإقصاء يستغرب له الزلماضي. إذ يتساءل «كيف يفعلون ذلك مع أن منهم من يأتوننا كي نعالجهم أو نعالج أفرادا من أسرهم؟». قبل أن يضيف «أنا شخصيا حين أرى حالة من الحالات تستوجب العلاج النفسي أنصحها بالتوجه إلى أخصائي نفسي. فيما الأخصائيون النفسيون لا يفعلون مثلما نفعل. حالات كثيرة تكون لها علاقة بالمس أو معاشرة الجن للإنس لا يحيلونها علينا كما نفعل نحن دائما، بل يعتبرونها حالات مرضية فقط. لماذا يفعلون ذلك؟ لأنهم ببساطة لا يؤمنون بالرقية والمس وغير ذلك. كما لا يعترفون بوظيفتنا. لو فعلوا ذلك لحدث بيننا تكامل ونقاش عميق. لكنهم للأسف لا يفعلون». بين التحريم والإباحة نفس النقاش المصحوب أحيانا بسوء الفهم يكون أيضا على المستوى الثاني، أي بين أصحاب الخطاب الديني أنفسهم. والنتيجة أنهم ينقسمون إلى معسكرين، معسكر يجيز معاشرة الجن للإنس والتزاوج والتوالد بينهما، مستندا في ذلك على آيات قرآنية وفتاوى. يقول أحد الرقاة (فضل عدم ذكر اسمه) إن «معاشرة الجن للإنس أمر ثابت في القرآن بدليل قوله تعالى في سورة الرحمان: «فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولاجان». ويفسر هذا الراقي الآية قائلا: «لم يجامعهن إنس قبلهن ولا جان». كما يستدل أصحاب هذا المعسكر على جواز المعاشرة بقوله تعالى: «ويوم يحشرهم جميعا يا معشر الجن قد استكثرتم من الإنس وقال أوليائهم من الإنس ربنا استمتع بعضنا ببعض وبلغنا أجلنا الذي أجلتنا» (الأنعام 128)، مفسرين لفظة «الاستمتاع» بأنها تحتمل معاني عدة، منها الاستمتاع الجنسي. إضافة إلى ذلك، يستند أصحاب هذا الرأي على فتاوى للإمام مالك وابن تيمية وآخرين لإباحة معاشرة الجن للإنس. فيما يحرم أصحاب المعسكر الثاني ذلك من منطلق اختلاف طبيعة الإنس والجن وتركيبتهما وكذا استنادا على آيات قرآنية. يقول القرضاوي: «هناك من يقول بإمكانية زواج الجن بالإنس وبعض العلماء أجاز ذلك، لكن أكثرهم يمنعون ذلك شرعا حتى لو كان ذلك ممكنا لأن الزواج قائم على التجانس، والقرآن يقول: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا»، من أنفسكم أي من جنسكم حتى يحدث الأنس والسكون. كيف إذن يسكن الرجل إلى عفريتة أو المرأة إلى عفريت ليس من جنسها؟! كيف يمكن للطين والنار أن يلتقيا؟».ويتساءل القرضاوي: «هل يحصل الزواج بين الجن والإنس؟» قبل أن يجيب: «الشائعات تقول ذلك، لكن ما الذي يثبت لنا هذا الزواج؟ وكيف يلتقي الزوجان؟ بعضهم يستدل بالآية الكريمة «لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان»، لكن هذا لا يعني إمكانية الزواج أو جوازه. وهناك آية «ربنا استمتع بعضنا ببعض» ولفظة «الاستمتاع» هنا لا تعني الزواج. إن الآيتين معا لا تثبتان النكاح». نفس الرأي يقول به عبد الباري الزمزمي، الذي يفسر الآية السابقة «بتبادل المنافع بين المشعوذين والجن الذين يتعاونون معهم». ويتساءل الزمزمي هو الآخر عن الكيفية التي يمكن أن يتزاوج بها الطرفان، مؤكدا ألا دليل في الواقع ولا في الشرع يثبت ذلك. هذه المواجهة بين المعسكرين عكستها بشكل واضح مناظرة ساخنة بين الشيخ خالد الجندي والمعالج القرآني إبراهيم العليم في إحدى حلقات برنامج «مصر النهاردة» على التلفزيون المصري، حيث أكد المعالج القرآني حدوث المعاشرة بين الجن والإنس، فيما نفى الجندي ذلك، مؤكدا أن الجن ليست له قدرات على الإنس. تشعب الجدل بين كل الأطراف بخصوص هذه الظاهرة يفسره الكاتب والباحث محمد أسليم بطبيعة الظاهرة نفسها. إذ يوضح في حوار أجرته معه «المساء» أن «هذه الظواهر تشبه الدين من حيث إنها لا تقبل جدلا ولا برهنة أو تحليلا عقلانيا، فهي تقتضي إما الأخذ أو الرفض وليس بإمكان مصدقها إقناع منكرها، كما ليس بوسع هذا إقناع ذاك، لأن الإقناع والاستدلال والبرهنة عمليات ترتكز على قواعد لاستعمال العقل تختلف عن نظيرتها المستخدمة في الخفي والغيب».