هل يمكن حقا أن يعاشر جني إنسيا؟ سؤال ظل ينوس في ذهني وأنا أتجه مع مرافقي للقاء المعالج القرآني أحمد الزلماضي. في هذا المنزل اعتاد الزلماضي تنظيم جلسات جماعية للرقية.عشرات الأشخاص يقصدونه يوميا من البيضاء وغيرها لعلاجهم من السحر والمس والجن. «الناس يأتونني من كل الجهات» يقول الزلماضي. في الطريق إليه ظل مرافقي يروي لي حكايات عن «أشخاص «مسكونين» كان الجن يعاشرهم جنسيا». لا يشك مرافقي، الذي احتك بمجال الصرع فترة معينة، في حقيقة هذه الحكايات التي عايش بعضا منها عن قرب، فيما ظلت الأسئلة تنهش ذهني حول طبيعة هذه العلاقة وحقيقتها. ونحن نقترب سألني مرافقي إن سبق لي أن حضرت جلسة للصرع، فأجبته بالنفي. ابتسم ولم أفهم سر ابتسامته إلا بعد أن ولجنا منزل الزلماضي. في حضرة اللامنطق بمجرد ما اجتزنا عتبة المنزل هاجمتنا الأصوات من كل جهة. كانت أصواتا صاخبة تخترقها تلاوة القرآن. كان المنزل غاصا بالرجال والنساء.الرجال في الطابق السفلي والنساء في العلوي.. والزلماضي يتنقل بينهما دون أن يتوقف عن قراءة القرآن، مستعينا بميكروفون. صوته الجهوري كان واضحا، رغم كل الأصوات والصخب. بقيت لحظات مترددا، أحاول استيعاب ما يحدث حولي، قبل أن ينتبه إلينا الزلماضي، الذي كان لنا معه موعد سابق، ويشير إلينا أن ننتظره ريثما ينتهي من جلسة الرقية الجماعية، قبل أن يهمس لي أن أنسى قليلا رصيدي الفكري والمنطقي، وأن أكتفي بالمراقبة فقط. كانت النصيحة في محلها. إذ ما إن أخذت مكاني بين الحاضرين حتى بدأت تتقاذفني مشاهد مثيرة: رجل أربعيني ضخم الجثة يخبط بيده على ركبته بقوة ويتجشأ بين الوقت والآخر بصوت مرتفع..قربه شاب بملامح متقلصة، أشبه بشخص مختنق يحاول التنفس دون أن يستطيع. كان يجلس ويقف ثم يجلس ويقف بحثا عن وضع يريحه دون أن يعرف ما هو. . غير بعيد أشخاص مستلقون على فراش في غرفة جانبية. بعضهم يتلوى ويتمرغ على الأرض، وآخرون يتأوهون. في الطابق العلوي كانت تتعالى صرخات النساء دون توقف.إحداهن كانت تضرب على الحائط بقوة، وأخرى «تتحير» موغلة في عالم لا يدركه سواها... كان الكل في حالة انخطاف، مشدودا إلى عوالم يعيشونها وحدهم.. والزلماضي مستمر في تلاوته لا يتوقف، والصراخ لا يتوقف. كنت أراقب ما يحدث منذهلا، فيما ظل مرافقي يشرح لي ما استعصى علي فهمه دون أن يبدو عليه أدنى تخوف أو اندهاش. في لحظات معينة كانت الأصوات تحتد أكثر، مصحوبة بالبكاء، والأجساد تتمطط هي الأخرى وتتلوى من شدة الألم حين يعيد الزلماضي تلاوة آيات قرآنية بعينها.كان يفعل ذلك أكثر من مرة. استمر هذا الطقس الأشبه ب«جذبة خاصة» زهاء ساعة قبل أن ينتهي الزلماضي من رقيته الجماعية ويعود الجميع إلى وعيهم وكأن شيئا لم يحدث. أغلب الضحايا نساء استعاد المكان هدوءه أخيرا، وبدأ الجميع يغادر. فيما أصر البعض على مصافحة معالجهم وشكره. فيما بعد سيسألني الزلماضي مبتسما إن كنت فعلا طبقت نصيحته، قبل أن يخبرني بأنه اعتاد أن يفعل ذلك مع أي صحافي أو باحث يريد زيارته. «إن ما يحدث هنا وتراه أو تسمعه لا يخضع للمنطق. لذا من الأفضل أن تتخلص من كل ما له علاقة بالمنطق أمام عتبة المنزل» يقول الزلماضي، مضيفا أن «هناك أمورا عديدة في هذا المجال يصعب شرحها لأنها تتحدى المنطق. لذلك لم أعد أفاجأ بأي شيء.صار كل شيء عاديا بالنسبة إلي». زوار هذا المعالج القرآني مختلفون، فيهم الرجال والنساء، الشباب والشيوخ، الفقراء والأغنياء. فيهم أيضا المثقفون ورجال السلطة...الكل يأتي إليه قصد العلاج من السحر والمس أو الجن. و«معظم هؤلاء يشتكون من معاشرة الجن لهم جنسيا، وخصوصا النساء» يقول الزلماضي. ولم النساء بالتحديد؟ أسأله، فيجيبني «لأنهن كائنات ضعيفة وهشة». يدخل علينا شاب وزوجته فينقطع حبل الدردشة بيننا. الزوجان الشابان يقطنان بالحي المحمدي، وقد التجآ إليه ليخلصهما من سحر حوّل حياتهما إلى دوامة من المشاكل، يحكي الشاب. وحين سألهما الزلماضي عن طبيعة هذا السحر، أخبرته الزوجة بأن مشعوذة سحرتها للانتقام منها، وأن حياتها الزوجية بدأت تتأثر نتيجة هذا السحر، قبل أن تخبره بأنها ترى دائما شخصا أسود بشعر أشعث يمارس عليها الجنس، وبأنها تصحو من نومها دوما متعبة. بين الوقت والآخر يتدخل الزوج ويستلم دفة الحكي ليضيء بعض العتمات التي نسيتها الزوجة أو تحرجت من ذكرها. كان الاثنان معا مصممين على مواجهة مشكلتهما. في الأخير استأذنا بالذهاب بعدما حدد لهما الزلماضي موعدا لزيارته. لحسن حظ هذه الزوجة أن زوجها يتفهم مشكلتها ومتمسك بها، يقول الزلماضي، قبل أن يضيف بأن «العديد من الرجال غالبا ما يقدمون على تطليق زوجاتهم في مثل هذه الحالات لأن الزوج يقول إن زوجته «مسكونة»، وهذا هو المصطلح المستعمل، ولا تصلح له فيطلقها دون أن يكلف نفسه عناء معالجتها».ويفسر الزلماضي هذا الاختيار بكون الزوجة تتغير كثيرا في تصرفاتها.إذ «يمكن أن ترى المرأة زوجها جميلا، لكن بمجرد ما يحضر الجني الذي يعاشرها تعاملك كأنك غريب عنها ولا تعرفك، وتبدو رائحتك كريهة بالنسبة إليها.ليست الرائحة الكريهة التي تعرفها أنت وأنا، بل أفظع. وهذا غالبا ما تكون له تداعيات سلبية على علاقة الزوجين وحياتهما الجنسية». متزوجة من جني طيلة الخمس والعشرين سنة التي مارس فيها الزلماضي الرقية الشرعية، مرت عليه حالات غريبة، لم يعد يتذكر منها سوى القليل. حالات ترتبط، كما يقول، في معظمها بمعاشرة الجن للإنس.إحدى هذه الحالات كانت امرأة متزوجة «جاءتني-يحكي الزلماضي- وأخبرتني بأنها متزوجة بإنسي وجني في الآن ذاته، وأن لها من الاثنين أبناء. كانت المرأة في كل مرة تنادي أشخاصا لا أحد يراهم سواها، وتقول إنهم أبناؤها من الجني، ثم تدفع إليهم بالأكل أمامي. كنت أرى يديها تدفعان بالطعام جهة الفراغ ثم يختفي دون أن أعرف أين. هذه الحالة رأيتها بعيني هاتين. يمكن ألا تصدقني، لكن هذا ما عاينته». حكاية أخرى يرويها الزلماضي عن «امرأة كان يعشقها جني، يأتيها ليلا ويعاشرها معاشرة الأزواج، وحين تمتنع تجد نفسها في الصباح مجردة من ملابسها». مثل هذه الحكايات، يقول الزلماضي، لا يصدقها العديدون، «لكني لا أعاتب أي أحد يكذب هذه الأشياء.فمن صدقها له حتما دليله لأنه عاش تجربة شخصية أو عائلية جعلته يصدق ذلك. ومن كذبها ربما لم يجرب أو يرى أن المنطق لا يثبت ذلك». نغادر منزل الزلماضي بعد أزيد من ساعتين قضيناها معه. عند عتبة المنزل وقف يودعنا بابتسامته المعهودة، قبل أن يقول لي ضاحكا: «الآن يمكنك أن تسترد منطقك».