قادت الولاياتالمتحدة، في أعقاب أحداث 11 شتنبر 2001، حملة كبيرة وواسعة النطاق لمواجهة ما تسميه إرهابا، سخرت لها إمكانيات سياسية واقتصادية وعسكرية هائلة، ضمن مقاربة طغى عليها الطابع الأمني والزجري. ومع حلول الذكرى العاشرة لهذه الأحداث، يطرح السؤال مرة أخرى حول مدى نجاعة وفعالية التدابير المختلفة التي اتخذتها هذه الدولة في هذا الصدد، وبخاصة مع تزايد انتشار الظاهرة في مناطق مختلفة من العالم وتفاقم مخاطرها بصورة ملحوظة في السنوات الأخيرة. إن النتائج العكسية التي تمخضت عن المكافحة الأمريكية لظاهرة «الإرهاب» في السنوات التي أعقبت أحداث 11 شتنبر، تجد تفسيرها في التركيز على المقاربة الأمنية وغياب استراتيجية حقيقية تقف على أسباب الظاهرة في مختلف خلفياتها وتجلياتها. وفي هذا السياق، يلاحظ أن المؤسسات الدولية بمختلف أنواعها، والتي راهن عليها المجتمع الدولي في حفظ السلم والأمن الدوليين، أضحت في واقع الأمر مجرد أدوات تخدم مصالح الأقوياء، وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة بفعل تغييب البعد الديمقراطي داخلها وعدم استحضار المصالح الدولية العليا ضمن أولوياتها؛ فالمؤسسات، الاقتصادية التي تأسست باسم التنسيق الاقتصادي بين الدول ومساعدتها على تجاوز مشاكلها وأزماتها الاقتصادية والمالية..، أصبحت وسيلة للاستغلال الفاحش وتعميق الجروح الاقتصادية للدول الفقيرة، عبر إثقالها بالديون والشروط السياسية المجحفة، الأمر الذي نتج عنه تباين صارخ بين شمال غني وجنوب فقير ومتخلف عن التنمية والتطور.. أما المؤسسات السياسية الدولية فقد غدت مؤسسات شكلية مفتقدة لكل استقلالية أو مصداقية، وعلى رأسها الأممالمتحدة، فهذه الأخيرة، التي أنشئت أساسا لحفظ السلم والأمن الدوليين ولتلافي الحروب، أضحت، بفعل الضغوط التي غالبا ما تمارس عليها من قبل الولاياتالمتحدة وغيرها من القوى الدولية الكبرى، مؤسسة شكلية لا تتمتع بأية استقلالية أو مصداقية، بل إن قراراتها تأتي، في كثير من الأحوال، امتدادا للسياسة الخارجية لهذه الدولة وفي مواجهة الدول الضعيفة فقط؛ والأكثر من ذلك أنها ظلت مشلولة أمام العديد من القضايا والأزمات الدولية التي كانت تتطلب تدخلات عاجلة، وذلك بفعل استعمال «الفيتو» الأمريكي أو التهديد باستخدامه، كما هو الشأن بالنسبة إلى العدوان الإسرائيلي الأخير على غزة واحتلال العراق والأزمة «الشيشانية» ومجمل النزاعات في إفريقيا.. وحتى تلك القرارات، التي تمكنت هذه المنظمة من استصدارها بعد جهد جهيد، تظل، في الكثير من الأحوال، حبيسة الرفوف ولا يكتب لها التنفيذ، نتيجة لغياب الإمكانيات البشرية والمادية لذلك، من جهة، وانعدام الإرادة السياسية لمعظم القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها الولاياتالمتحدةالأمريكية، من جهة أخرى؛ ونستحضر هنا مختلف القرارات المرتبطة بالقضية الفلسطينية. والحقيقة أن عدم فعالية هذه المؤسسات في انتزاع حقوق الضعفاء في مواجهة الأقوياء هو بمثابة إغلاق لباب تصريف المشاكل والمطالب وحل المنازعات بشكل ودي وقانوني عادل، الأمر الذي يسهم، إلى حد بعيد، في اتباع سبل وبدائل أخرى قد تكون لا مشروعة وأكثر عنفا ودموية لتحقيق المطالب. وما يكرس العشوائية في مكافحة «الإرهاب» أيضا هو انخراط الأممالمتحدة، وبخاصة مجلس الأمن، في إصدار عدد من القرارات التي تحاول ضبط انتشار هذه الظاهرة في غياب تعريف محدد لها أو استثناء للعمل التحرري المشروع منها؛ ونذكر في هذا الصدد قرار المجلس رقم 1373 الصادر بتاريخ 28 شتنبر 2001 الذي أكد ضرورة مواجهة مخاطر الإرهاب الدولي بكل الوسائل السياسية والزجرية، بما فيها تجميد أموال المشتبه في علاقاتهم بالإرهاب، دون التمييز بين هذا الأخير المحظور وحق الكفاح المشروع ضد الاحتلال. كما أن عدم وجود قضاء دولي فاعل وقادر على المساهمة في تحقيق السلم والأمن وفرض احترام القانون الدولي ومنع الإفلات من العقاب عن مختلف الجرائم الدولية الخطيرة، يدفع «الضحايا» إلى البحث عن سبل لامشروعة، قد تصل إلى درجة العنف بكل مظاهره للاقتصاص والانتقام وتحقيق المطالب بما يسهم في تنامي «الإرهاب». ومن جهة ثانية، يجد الضالعون في عمليات «الإرهاب الدولي» ذريعتهم في مختلف السلوكات الاستفزازية التي تنهجها الولاياتالمتحدة عبر سياساتها الجائرة في العديد من المناسبات والمحطات، والتي تصل أحيانا إلى حد تعطيل عمل المؤسسات الدولية وقطع الطريق أمام تدخلاتها المشروعة، وهو ما اعتبره العديد من الباحثين تحريضا على «الإرهاب». ومباشرة بعد وقوع أحداث 11 شتنبر في داخل العمق الأمريكي، ساد اعتقاد قوي في كل أرجاء العالم، بل وحتى في الداخل الأمريكي أيضا، بأن الولاياتالمتحدة ستغير، أو ستعدل على الأقل، من سياساتها تجاه القضايا الدولية بصفة عامة وقضية الشرق الأوسط بصفة خاصة، نحو بلورة مواقف عادلة ومنصفة. غير أن التطورات والممارسة الميدانية، التي أعقبت هذه الأحداث مباشرة أو بعدها، أثبتت بالملموس استمرار الولاياتالمتحدة في سياساتها التعسفية المعهودة، بل وضاعفت من حدتها؛ فعلى الصعيد الدولي فرضت الصمت على تداعيات حملتها المنحرفة ضد ما تسميه «إرهابا» دون تمييزه عن الكفاح المشروع مع التركيز على «إرهاب» الأفراد دون «إرهاب» الدولة الذي يعد أشد خطورة، وما نتج عن ذلك من اعتداءات على عدد من الدول واقتراف خروقات مرتبطة بحقوق الإنسان، من اعتقالات وتعذيب للمتهمين في معتقلات سرية في مختلف أنحاء العالم ومحاكمتهم خارج القوانين المحلية والدولية؛ ناهيك عن امتناع هذه الدولة عن توقيع عدة اتفاقيات دولية حيوية كبروتوكول «كيوتو» الخاص بالحد من انبعاث الغازات الحابسة للحرارة، وكذا الانسحاب من اتفاقيات أخرى، مثلما هو الشأن بالنسبة إلى اتفاقية الصواريخ البالستية ABM، ومن مؤتمر «دوربن» حول التمييز العنصري، ومعارضة إقامة المحكمة الجنائية الدولية الدائمة، والتواطؤ المستمر مع إسرائيل في جرائمها اليومية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتصنيف الدول بشكل تعسفي إلى محور للخير وآخر للشر.. وأمام هذه المعطيات، كان من الطبيعي أن يتزايد الشعور بالكراهية للسياسة الخارجية لهذه الدولة، وتتناسل بذلك مظاهر العنف للتعبير عن عدم القبول بهذه السياسات أمام الصمت الذي تفرضه هذه الدولة على مختلف الأنظمة التي ينتمي إليها الضالعون في هذه العمليات. إن هذا التحليل لا يصب في اتجاه الإقرار بمشروعية العمليات «الإرهابية» تحت أي سبب أو ذريعة، بقدر ما يتوخى الوقوف على مكامن الخلل والانحراف في السياسة الأمريكية وأزمة المؤسسات الدولية وتأكيد أهمية وضرورة إصلاحهما ودمقرطتهما، في اتجاه الوقوف على مختلف العوامل والأسباب التي يتذرع بها الضالعون في هذه العمليات، خاصة وأن القضاء على ظاهرة «الإرهاب» الدولي يتطلب الوقوف، بشكل صريح وشجاع، على كل الأسباب التي تقف خلفها.. بدل التركيز على المقاربة الأمنية المرتبطة بالقبض على الضالعين ومحاكمتهم.. إن مكافحة «الإرهاب» الدولي تبدأ ببلورة تعريف موحد ومقبول لدى مختلف الدول للإرهاب يميزه عن المقاومة المشروعة، وهي عملية تتطلب تنسيقا وتعاونا تنخرط فيه كل الدول مع إعادة الاعتبار إلى المؤسسات الدولية، من خلال تفعيلها والحد من التأثير في مصداقيتها، هذا بالإضافة إلى احترام القانون الدولي واتباع حل ودي عادل لكل القضايا والأزمات الدولية، سواء ارتبطت بمصالح الأقوياء أو الضعفاء، بالإضافة إلى الكف عن ممارسة «إرهاب» الدولة الذي يظل مسؤولا في كثير من الأحيان عن بروز «إرهاب» الأفراد والجماعات.. وتشير الممارسة الدولية إلى أن أي إجراء أمني، مهما توافرت له الإمكانيات البشرية والتكنولوجية والمادية، لا يمكنه الحد من هذه الظاهرة، بعدما أصبح القائمون بهذه الأعمال يطورون آلياتهم ووسائلهم ويستغلون، وبتحايل كبير، أضيق الفرص والفجوات لتنفيذ أعمالهم. إن مواجهة «الإرهاب» ومكافحته تتطلبان وقفة تأمل وتركيز لبلورة أساليب وسبل ناجعة وفعالة تقف على مسبباته، في أشكالها المتباينة والمتعددة، للوقاية من تداعياته قبل الخوض في علاجه بأشكال زجرية وأمنية، وربما «إرهابية» أيضا قد تزيد من تفاقمه وتطوره.