الحديث عن الاستعباد لا يبدو استعارة ولا ميلا إلى المبالغة، بالنظر إلى الطبيعة الهشة لفئة الأطفال، والتي يستحيل معها الحديث عن التطوع للعمل؛ بقدر ما يعكس اضطرارا ذاتيا من الطفل أو أسرته لاستغلال فترات العطلة من أجل جمع الدراهم اللازمة لضمان استمرار مساره الدراسي ولا أحد من هؤلاء العمال الصغار اختار أن يتنازل عن فترة استراحة سنوية، وانتهازها لمعانقة أمواج الشاطئ، والالتزام بالمقابل بإيقاع عمل البالغين الآن وقد ودّع الجميع فترة ثمينة من السنة تسمى العطلة، وشارف المعلمون على تجديد العهد بقاعات الدرس التي طال إغلاقها، واشتد شوقها إلى شغب الصغار ومعرفة الكبار. وبينما الآلاف من أطفال المغرب سوف لن يعرفوا للمدرسة طريقا، ويلتحقوا بالمقابل بلائحة المنتظرين على هامش الحياة، المسترخين على أريكة الجهل والإقصاء، فإن هؤلاء الملايين ممن يوصفون بالمتمدرسين، ليسوا جميعا عائدين من منتجعات التخييم وأسفار السياحة، وليسوا جميعا مدعوين إلى طرد الخمول عن عقولهم، والكسل عن أبدانهم الصغيرة. بل إن منهم من هو مقبل على أخد قسط من الراحة داخل الفصول، والتخلص من عناء صيف شاق. محمد، طفل في الثانية عشرة من العمر، مقبل على الانتقال من المدرسة الابتدائية نحو التعليم الإعدادي، أمضى ما يزيد عن الشهرين متنقلا بين الأسواق الأسبوعية والعشوائية لجهة الرباطسلا، رفقة «مشغله» الذي يتاجر في الأحذية المستعملة. بأجرة مائة وخمسين درهما في الأسبوع، كان محمد يستيقظ قبل طلوع النهار، من أجل شد الرحال نحو الوجهة التي تتغير بشكل شبه يومي، ومهمته المساعدة في نقل البضاعة وترتيبها، ثم المشاركة في عملية البيع طيلة النهار. محمد لم ينزع عنه صفة «العامل» لارتداء وزرة التلميذ بعد، بل كان منذ أسابيع يستعد لمرحلة تجارته الخاصة، بجمعه عشرات الكتب المستعملة استعدادا لفترة الدخول المدرسي، وهو الآن يتعهد تجارته مساء كل يوم ببيع كتب وشراء أخرى، على أمل الخروج بأرباح تغطي مصاريفه الشخصية، «و هي فرصة أيضا لاقتناص كتب رخيصة لي ولإخوتي» يقول محمد. عطلة مليئة بالأشواك ف«مزاولة التلاميذ والطلبة لبعض المهن والأعمال خلال العطلة الصيفية أو غيرها من العطل، ليست بظاهرة جديدة في المجتمع المغربي. فمنذ تبنى المغرب نمط المدرسة الحديثة، وخاصة بعد حصوله على الاستقلال، ما فتئنا نلاحظ إقبال بعض التلاميذ والطبلة على بعض الأعمال ومزاولة بعض المهن والحرف خلال العطل الدراسية» يقول علي شعباني، الأستاذ الباحث في علم الاجتماع. لكن محمد قد يكون محظوظا لطبيعة العمل الذي يزاوله في ما يفترض أنه عطلته السنوية، لأن لديه من «الزملاء» والأصدقاء من كان مآله ينطوي على كثير من العناء والمعاناة. فصديقه سعيد بالكاد بدأ يتخلص مما أصاب يديه من تورم وجروح، جراء انصرافه بعد نهاية الموسم الدراسي الماضي إلى بيع فاكهة الصبار «الهندية». متخذا من عربة صغيرة وقطعة خشبية وسيلة لعرض بضاعته المؤذية، والتجول بها في شوارع المدينة، متعقبا مساحات الظل قرب الأشجار والبنايات، ومستعدا لأخذ الفاكهة التي يقع عليها اختيار الزبون عن طريق الإشارة بأصبعه، ليتولى سعيد أمر إزالة قشرتها بيدين عاريتين. «الأطفال في مختلف تضاريس المجتمع قد استحالوا إلى أقنان جدد، يعنفون ويُستغلون ويحرمون كرها وخطأ من طفولتهم. داخل البيوت كخادمات من الدرجة الأخيرة، وفي المعامل والورشات الصناعية كأجراء بلا أجرة، وكعبيد وإماء في عوالم اللذة والألم، كعمال جنس على درب السياحة الجنسية» يقول السوسيولوجي عبد الرحيم العطري في أحد مقالاته. العمل بدل الأقتراض و هذا الحديث عن الاستعباد لا يبدو استعارة ولا ميلا إلى المبالغة، بالنظر إلى الطبيعة الهشة لهذه الفئة العمرية، والتي يستحيل معها الحديث عن التطوع للعمل، بقدر ما يعكس اضطرارا ذاتيا من الطفل أو أسرته لاستغلال فترات العطلة من أجل جمع الدراهم اللازمة لضمان استمرار مساره الدراسي. ونموذج ذلك الطفل عادل، المعتاد منذ أربع سنوات على الالتحاق كلما حلت إحدى العطل، بورشات الخياطة. فيما تواصل والدته التردد على تلك الورشات طوال العام، مشتغلة بإعداد الأزرار التقليدية «العقاد»، مقابل عشرين سنتيما للواحدة، فيما تتولى أخت عادل الكبرى تنفيذ طلبات «المعلمين» من «الضفيرة»، مقابل درهم ونصف للمتر الواحد. تنقَّل عادل خلال سنوات بين ما يزيد عن ستة «معلمين»، في كل مرة تأخذه والدته من يده نحو أحدهم، طالبة منه التفضل بقبول ابنها في ورشته. عارضة ما يميز ابنها من أمانة واستقامة واستعداد للتعلم، لتبدأ رحلة جديدة مع العمل وأشياء أخرى. «ركلة واحدة من المعلم كانت كافية لتقذفني خارج المحل دون أن يتأكد مما إن كنت أنا من اختلس العشرة دراهم» يقول عادل عن إحدى النهايات السيئة لمشوار العمل القصير. «لا يمكن أن يخفى على أحد بأن تكاليف الدراسة ومصاريفها أضحت باهظة ومكلفة، والكثير من الأسر باتت تحسب للدخول المدرسي ألف حساب. إلى درجة دخول مؤسسات القروض الصغرى على الخط ولجوء بعض الأسر للاقتراض من أجل مواجهة تكاليف الدخول المدرسي الباهظة. ومن هنا أصبح البحث عن العمل والإقبال عليه من طرف التلاميذ والطلبة خلال فصل الصيف شيئا مألوفا» يقول علي شعباني. لكن عادل والكثير من أمثاله لم يختر يوما أن يتنازل عن فترة استراحة سنوية، وانتهازها لمعانقة أمواج الشاطئ. والالتزام بالمقابل بإيقاع عمل البالغين، فيبدأ نهاره مبكرا بحمل محرك صغير، وكيسا من «الصابرا» (خيوط حريرية) والتوجه نحو مكانه المعتاد، حيث يسدل الخيوط الحريرية ويقوم بفتلها بواسطة المحرك وفقا لتعليمات المعلم، وما إن يعود إلى المحل حتى يجد لائحة احتياجات الورشة في انتظاره، يضعها في جيبه ويقصد محلات بيع الحرير والخيوط، ثم يعرج على محل إعداد «المضمات» في طريق العودة، وهنا يبدأ الجزء الداخلي من العمل، حيث يتولى عادل رفقة «متعلمين» آخرين إنهاء عمل «المعلم». «الفينيسيون صعيبة وضراتني في عيني» يقول عادل وهو يعدل وضع نظارتيه الطبيتين. في الشتاء والصيف الأمر هنا يتعلق ب«ظاهرة منتجة لظواهر أخرى من العطب والباثولوجيا الاجتماعية، فهو لا يتوقف عند حدود تشغيل مجحف أو عادل لهؤلاء الأطفال، بل يتعداه من مستوى العلائق المفترضة بين رب الشغل والمشغل إلى مستويات أخرى من التحرش والاستغلال الجنسي، والعنف والانتهاك الواضح لحقوق الانسان» يقول عبد الرحيم العطري الذي يضيف أن للظاهرة ارتباطا وثيقا بالهشاشة الاجتماعية، بل إنها عنوان بارز لمستوى التهميش والإقصاء الاجتماعي الذي تعاني منه فئات عريضة من المجتمع، فالسؤال السوسيولوجي، حسب العطري، الذي نوجهه صوب «الانحدارات الاجتماعية» للأطفال المشتغلين سيظل مفتوحا على الإعاقة والهشاشة الاجتماعية، إذ لا يمكن أن نتوقع طفلا مشغلا أو مستغلا في آن، قادما من فئات «عالية الكعب». الطفل حميدة، المقبل على ولوج سنته الثانية إعدادي، يبدو عصيا على الخضوع لقاعدة الانحدار من صنف الهشاشة والفقر، فوالده يمتلك بيتا «محترما» في أحد أحياء مدينة تمارة، به طابقان تسكن أسرة حميدة في أحدهما وتستأجر الآخر، بينما تم تقسيم الطابق الأرضي إلى محلات تجارية، اثنان منهما مستأجران، فيما يشغل الأب أحدها في مزاولة مهنة «البقالة»، ما يعني دخلا شهريا لا يقل عن خمسة آلاف درهم. لكن ذلك لا يعفي حميدة من العمل المضني والشاق، ليس في بيع الكتب أو رتق الأثواب؛ بل الوقوف خلف عربة والتجول بها في السوق، عارضا خدماته ك«حمّال». وما إن ينفضّ السوق وينهي الطفل حميدة عمله، حتى يجد تجارة الوالد في انتظاره. الخطير في قصة حميدة أن ليس لعمله بداية أو نهاية، ولا يقتصر الأمر على الصيف وفترات العطلة، بل إن أمرا يوميا خلال السنة الدراسية يطالبه بالاستيقاظ فجرا، لأداء الصلاة والتوجه بالعربة نحو السوق، فلا يلتحق حميدة بفصل الدراسة إلا وقد أنهكه التعب، عزاؤه الوحيد بضع عشرات من الدراهم التي جناها. «التمثلات المنغرسة في قيعان الوعي الجمعي بصدد «خذلان الشهادات العليا» وبوار التعليم، لكونه لم يعد يعبد الطريق بيسر تام نحو «طابلة المخزن»، كل هذا يدفع الأسر إلى «تقرير مصير» الأبناء بعيدا عن فصول الدراسة، إلى الإفادات المالية المباشرة والسريعة التي يحصلون عليها من خلال تشغيلهم في ورشة أو مطبخ بيت ما» يضيف العطري في أحد مقالاته حول الموضوع. العمل في انتظار الفراغ من الترف الفكري أمثال محمد وعادل وحميدة من الأطفال العاملين في المغرب، وإن كانت هذه النماذج تمتاز باحتفاظها بمقعد الدراسة، يقدرون بنحو 600 ألف، ما يعني أن أكثر من 10 في المائة من أطفال المغرب دون سن 14 سنة يمارسون نشاطا اقتصاديا، يشكل الذكور غالبيتهم بما أن عمل الإناث داخل بيوت أسرهن لا يعتبر تشغيلا. فيما يعتبر الأمر بالنسبة إلى أطفال البادية «محسوما سلفا، فبمجرد حصولهم على العطلة الدراسية يقوم آباؤهم وذووهم بإدماجهم في العمل، لمساعدتهم في الأشغال الفلاحية كالرعي مثلا أو جمع المحاصيل الزراعية والغلال، وقليل منهم من كان آباؤهم يلحقونهم بالمسيد لحفظ القرآن...» يقول شعباني. فيما رحلة البحث عن حلول لهذه الظاهرة تبدو طويلة، بما أن «الأرقام المهولة المعبرة عن ارتفاع الظاهرة لا يمكن أن تتضاءل وتنمحي من جنبات المجتمع بدون اعتماد مقاربة مندمجة لا تركز على إنتاج القوانين وتنظيم مناظرات الترف الفكري وتقديم مخططات لا ينكتب لها التحرر من سجن الرفوف وأدراج المكاتب، وإنما تركز أساسا على معالجة الاختلالات العميقة التي تنتج الظاهرة وتزيد من تفاقمها» برأي العطري.