بتاريخ 7 يوليوز الماضي، أصدر عادل سفر، رئيس مجلس وزراء النظام السوري، تعميما تحت تصنيف «فوري وسرّي»، يبدأ هكذا: «وردتنا المعلومات التالية: ستقوم عصابات دولية محترفة بدخول القطر بعد أن قامت تلك العصابات بإدخال جزء من معداتها التكنولوجية وأجهزة اتصالات عبر الأقمار الصناعية إلى القواعد. وهذه العصابات متخصصة في سرقة المخطوطات والآثار والمتاحف والخزائن والبنوك، وسبق أن دخلت هذه الشبكة إلى العراق وليبيا لأن هناك استراتيجية تهدف خلال الفترة القادمة إلى اقتحام البنوك والمراكز البريدية». وينتهي التعميم بطلب «تشديد الإجراءات الأمنية من خلال تركيب بوابات أمنية وأجهزة إنذار وكاميرات مراقبة مخفية وتشديد الحراسة على المباني وإعادة النظر في عناصر الحراسة غير الكفأة». التعميم موجّه إلى وزراء الاتصالات والتقانة والثقافة والمالية، فضلا عن حاكم مصرف سورية المركزي؛ وهذه، بالطبع، ليست جهات أمنية أو استخباراتية، وأدوارها في مقارعة «عصابات دولية محترفة» سوف تكون بائسة ومضحكة في آن. بيد أن ما يختفي طيّ التعميم هو الحقائق المفزعة عن تكاثر حوادث نهب وتزوير وتهريب آثار سورية ثمينة، وهذه أعمال معقدة لا يعقل أن تتم دون تسهيل من جهات أمنية عليا، لعلها السادنة الأولى لهذه التجارة القذرة. تناسى رئيس وزراء النظام، كما ينبغي له أن يفعل صاغرا أو طائعا، حقيقة أخرى جلية تشير إلى عصابات من طراز آخر تمارس تخريب الآثار السورية، ولا تعمل تحت جنح الظلام هذه المرة، بل في وضح النهار، بمباركة النظام، وتهليل أبواقه. فماذا يقول سفر في دبابات ماهر الأسد، التي اخترقت دوّار السباهي في مدينة حماة، حيث الأعمدة العتيقة، فأخذت تخبط فيه خبط عشواء وكأنها تسير في أرض يباب؛ ومن نقاط تمركزها هناك قامت بقصف أحياء المدينة، فألحقت الأضرار بالكثير من معالم المدينة الأثرية، بما في ذلك القلعة الآرامية؟ وماذا يقول في قصف الجامع العمري (الذي أمر ببنائه الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، عند مروره في حوران)، مرة بعد مرة، على رؤوس اللاجئين إليه؟ وماذا عن النهب اليومي الذي يتعرض له تل الأشعري، أحد سقوف وادي اليرموك الحوراني، والذي تعود مكتشفاته الأكثر قدما إلى العصر الحجري؟ وماذا عن التشبيح الآثاري الذي يجري في إدلب ومعرّة النعمان وسائر جبل الزاوية، حيث مملكة إيبلا وتل مرديخ (الألف الرابع قبل المسيح)، ودير سنبل البيزنطي، ودير سيتا الروماني؟ وماذا عن النبش العشوائي، تحت سمع وبصر الأجهزة الأمنية، في تل حموقار، في منطقة الجزيرة، حيث تقع مدينة تعود إلى 3500 سنة قبل الميلاد، ويتفق الآثاريون على أنها واحدة من أقدم مراكز العمران؟ ما لا يفاجئ أن قطعة أثرية كبيرة سُرقت بعد أيام من صدور تعميم رئاسة مجلس وزراء النظام، وفي مدينة سورية ليست البتة مفتقرة إلى الرموز الكبرى: حماة، دون سواها! القطعة المسروقة هي تمثال ذهبي نادر لآلهة آرامية، وقد سُرق من داخل متحف المدينة، حيث اتضح للمحققين أنه لم تقع عمليات خلع لأبواب المتحف أو كسر للزجاج، وأن السارق تجول في المكان بحرية تامة وتوفر له كل الوقت اللازم لنزع التمثال من قاعدته ونقله خارج المتحف. سلطات الأمن الجنائي سارعت إلى توقيف موظفي المتحف، دون التوصل إلى نتيجة بالطبع، لأن السارق الشبيح كان ويظل في حماية سادته الشبيحة الكبار، حيث لا قانون يردع ولا سلطة تمنع. ولقد سبق لهؤلاء الشبيحة الكبار أن عاثوا فسادا في دمشق العتيقة، ولم يتورعوا عن تخريب أسواقها العريقة وطمس معالم كبرى من تاريخها الأيوبي والمملوكي، بغية إقامة منشآت سياحية ومجمّعات تجارية، دون أي اكتراث للعواقب العديدة، البشرية والتاريخية والآثارية والمعمارية والاقتصادية والثقافية، التي ستخلفها هذه الجرائم الصريحة المعلنة. وهكذا، لم يعد يشبعهم أنهم نهبوا وينهبون مثل ضباع شرهة جشعة، لا تشبع في قطاع الاتصالات والهاتف الجوال والأسواق الحرة وصناعة الإسمنت، وما خفي من أشغال حرام هنا وهناك؛ فتوجب أن يخربوا لكي يشتغلوا بإعمار ما خربوه، مع فارق أنهم يهدمون ما لا يجوز تهديمه ويمسّون ما ينقلب أيّ مساس به إلى جريمة كبرى في حقّ الإنسان والتاريخ في آن معا. لا يفاجئ، أيضا، أن منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) تبدي من القلق على كنوز سورية الآثارية والتاريخية والعمرانية أكثر بكثير مما تبديه السلطات السورية، ليس السياسية أو الإدارية وحدها، بل السلطات الآثارية أيضا! وكيف ستفعل هذه، أو هل تتجاسر أصلا، إذا كانت جهات التخريب والنهب والسرقة هي ذاتها عصابات التشبيح العاملة لدى رجال النظام، وهؤلاء يمارسون النهب الشمولي على نحو وجودي أو غريزي، لأنهم ببساطة يعتبرون سورية مزرعة لهم ولأبنائهم، كما كانت لآبائهم! وثمة، لا ريب، فارق في نوعية الألم إزاء ما يقترفه ضابط أمن في حق شهيد، مثل الناشط الشاب غياث مطر، قضى تحت التعذيب؛ وما يقترفه شبيح آخر في حق آلهة آرامية أو رقيم سومري أو مسجد عمري. ثمة، في المقابل، على ضفة الشعب، فارق المقاومة الذي يستولد الأمل من قلب الألم...