ينم المشهد السياسي والحزبي في المغرب عن ضحالة واضحة؛ فرغم دقة المرحلة التي تمر منها البلاد، لا يبرهن الفاعلون السياسيون إلا عن عجز مريع عن مواكبة آمال وتطلعات المواطنين؛ فلم تتفتق إبداعاتهم، إلى حدود الآن، إلا عن جدال أو سجال سوفسطائي حوْل العتبة والتقطيع الانتخابي وسكان اللائحة الوطنية، لكأنهم يختصرون كل حراك الشعب المغربي في مجرد إجراء انتخابات مبكرة، لذلك ليس غريبا أن يبدو خطابهم متجاوزا، رتيبا، مملا، متهالكا يثير القرف والاشمئزاز، خطاب، إن استمرؤوه واستمروا يرددونه، لن يغري في الغد أحدا بالتوجه صوب صناديق الاقتراع. لقد كان الكل يترقب أن تدعو الأحزاب، بعد إقرار الدستور بشبه إجماع شعبي، إلى توفير الشروط السياسية اللازمة لتنزيل «الديمقراطية الموعودة»، فإذا بها تتلكأ، ثم تتنازل عن مطلب محاربة الفساد الذي هدرت به أصوات الجماهير، لتغض الطرف عن الفاسدين بل ولتخطبهم للوائحها من جديد، مما أغرى هؤلاء الذين يعرفون كيف يخلقون باستمرار الحاجة إليهم بأن يذوبوا وينضموا إلى الحشود التي تلهث راكضة للإمساك بتلابيب الفساد؛ وهكذا صار الجميع، فاسدين وغير فاسدين، يجرون وراء الفراغ، ليعم شعور قاتل باللا جدوى.. إنه، إذن، الأمل الذي يذوي والتفاؤل الذي يتضاءل في دواخلنا كل يوم. إنه لمشهد غريب حقا أن نرى أحزابا تتوجس شرا من بعضها البعض، تشغل الناس بمعارك صغيرة وتافهة، تنسى فيها هموم الوطن وآماله، فلا نقاشا يدور حول البرامج والمشاريع.. هناك فقط سياسيون وقادة يقتلون ما تبقى من معنى للسياسة في نفوس الناس ويغتالون الغد بإصرارهم على «حربهم المقدسة» لأجل الكرسي.. أغلب الأحزاب المغربية لا تجرؤ الآن على الاحتكام للشعب ولا تريد هامشا للمفاجأة ليلة إعلان نتائج الاقتراع.. الكل يريد أن يقتسم بالتوافق ما سيصوت عليه الشعب غدا، فأي مسلسل ممل هذا التوافق الذي أضحى بديلا عن الديمقراطية في اجتهاد نخبتنا السياسية.. إننا لا نقوم الآن سوى بتكلف الديمقراطية وتصنعها، بل ونجحنا في تحويلها إلى عبء ينوء به كاهل الحياة السياسية تلبية لنزوات الإلحاح والجشع الانتخابي، ومسايرة لعقلية الريع التي تتسلل على مرأى من الشعب إلى المؤسسات التمثيلية، فتنهك السياسة بعدما أنهكت الاقتصاد. تبدو أغلب الأحزاب، وهي تنقب فرِحة عن التوافق، محملة بأماني النافذين فيها كمجموعة مرشحين يتفاوضون لفرض أسئلة المباراة على المؤسسة التي سيشغلون وظائفها، فالبعض يريد للشعب -ولو أن إرادته هي المصدر الأوحد للشرعية الانتخابية- دور الكومبارس فقط. ففي أية غفلة منا استأسدت العديد من اللوبيات وتنمرت حتى ما عادت تلقي بالا للشعب؟ هذه اللوبيات التي تناسلت وفرخت حتى صارت الآن أحزابا أفقية تخترق وتعبر كل الأحزاب. إن البرلمان كما ندرس في كليات الحقوق هو فضاء لتمثيل الأحزاب السياسية، وليس فضاء لتمثيل جماعات وقوى الضغط. فإذا كنا جميعا نستسيغ تمتيع النساء بتمييز إيجابي من خلال اللائحة الوطنية أملا في تدريبهن على المنافسة والنزال غدا في الميدان، فإننا لا ندري كيف أصابت عدوى هذه اللائحة الشباب أيضا، بل لا ندري ماذا ستلد لنا في المقبل من الانتخابات.. إنه الباب الموارب والموصد للفئوية يفتح الآن على مصراعيه، والذي لن يتأخر في المستقبل عن توليد احتجاجات غريبة ومطالب شاذة لفئات أخرى متى اعتبرت نفسها مظلومة، اجتماعيا أو سياسيا أو اقتصاديا. فهل كان أحد يتوقع سنة 2002، ليلة إقرار اللائحة الوطنية، أن يتأسى الشباب بالنساء ويتشبهوا أو يتمثلوا بهن في 2011؟ هل حدَسنا آنذاك هذا التحول لديهم ونحن نظنهم رمز الصحة والعنفوان والفورة والفتوة والحماس والأنفة والشموخ وركوب الصعاب وقهر المستحيل؟ ألا يعني هذا صفقة ضمنية مع «فرسان» اللوائح الملحية للإنفاق على شباب اللائحة الوطنية من أصواتهم؟ ولا يهم في سبيل ذر هذا «النجاح» في العيون من أي نوع هي هذه الأصوات.. أهي أصوات نقية طاهرة أم هي أصوات مدنسة بالمال الحرام؟ وهل ولوج بضعة شباب إلى البرلمان بضربة حظ أو بالتفاتة لشيوخ الأحزاب، الذين لم يستوعبوا الخطب «الملكية» التي تحض على تجديد النخب، يغدقونها على المريدين والفتوات من الشباب الحزبي، سيشكل حلا مرضيا وناجعا لأزمة المشاركة السياسية لدى شبابنا؟ إن خطافا واحدا لا يصنع الربيع. حقا، لو اطلع الزعيم الخالد علال الفاسي على هذا النقاش الركيك ما أنشد بيته الشعري الشهير: كل صعب على الشباب يهون هكذا همة الرجال تكون على الشباب أن يخوض معركة إثبات الذات داخل الأحزاب، لا أن يتنطع ويسعى إلى أن يصبح ذيلا للوائح المحلية، فما كان الشباب يوما هكذا وما كان التواكل وركوب السهل بأخلاق لهذه المرحلة من العمر، ثم هل استفتي الشباب المغربي إن كان ينشد البرلمان على هذا النحو؟ إن المنظمات الشبابية تؤطر الشباب وتسعى إلى تمثيله ولكنها لا تمثله، فبالأحرى أن تمثل الشعب كله، فلا تمثيلية للشعب إلا بتفويض منه أساسه الانتخاب. هذه هي أخلاق الديمقراطية التي كان ينبغي لهذه التنظيمات ضخها مشكورة بمناسبة دستورنا المتقدم في أوصال الحراك الشبابي والحياة السياسية. لذلك، فإن إلحاح البعض على «النضال» من أجل اللائحة الوطنية لا يوحي إلا بأنه يتوقع بها تعيينه «ديمقراطيا» في البرلمان. إن المفترض في النائب تمثيله للأمة برمتها، لكن انتخابه على أساس فئوي سيمنحه الشعور بالجميل للفئة التي انحدر من صلبها، مما سيزيد صورة البرلماني سوءا وسيخدش بهاء المؤسسة النيابية ورونقها. لقد سئمنا من الحديث عن العتبة وعن مبادئ التقطيع الانتخابي واللوائح الانتخابية، فالاقتراحات الحزبية ليست إلا صدى لمصالح المتنفذين داخل الأحزاب، لا كبير أثر فيها للمصلحة العليا للوطن، حتى إنه ليكاد يتولد لدينا الإحساس بأن المغرب في طريقه إلى أن يبهر الكل ويعيد اختراع الديمقراطية من جديد للبشرية جمعاء. ديمقراطية، على الشاكلة المغربية، سينكرها الفلاسفة والمفكرون الأصليون الذين أنشؤوها أول مرة، ولن تتعرف عليها حتى الشعوب التي أنشؤوا الديمقراطية من أجلها. إن الديمقراطية لا تخص أحدا بامتياز، ولا تحابي فئة، بل إن محاربة الامتيازات كانت أصل اكتشاف الديمقراطية، لذلك على الشعب أن يتعبأ، أولا، لاسترداد واستعادة أحزابه إلى حضنه، حتى تكون صدى لهمومه وراسمة أمينة لغده ومستقبله كما يبغيه هو أن يكون، فنحن نريد انتخابات بشكل ومضمون ديمقراطي، لتعيد صهر الفئات وتوحيدها، ونريد قوانين تحفظ للانتخابات طعمها ونكهتها.. قوانين لا تكدر صفاء الديمقراطية ولا تذهب بألقها ولا تكسر عنفوانها، وهذا لن يتأتى، أيها الناس، إلا بتطبيق الديمقراطية الخام كما صاغها وسنها الأولون.. علينا أن نعي جميعا أننا أمام المحك الأول، وهو المحك الأصعب على الإطلاق، لكنه حتما الحاسم في رسم ملامح المستقبل.