لرسول الله الكريم، صلى الله عليه وسلم، مكانة عظيمة ومنزلة رفيعة لم يبلغها أحد من الخلق، باعتباره آخرَ رسول كُلِّف بنشر الدعوة بين البشرية. رجل أضاء العالم بنور وحيه وإلهامه. وقد جعلت منه هذه المسؤولية التي تحملها إزاء البشرية أجمع نموذجا يُحتذى به في أوساط المؤمنين والمخلصين لدين الإسلام. يطرح مسار محمد العديد من الأسئلة الجوهرية والأبدية، خصوصا أن حياته تجسد المعنى الحقيقي للتواضع والتآخي والاحترام والعدالة والسلام، وفوق كل شيء، للحب. ويحمل هذا الوحي المنزَّل في طياته العديد من الدروس القيّمة للبشر، مهما كانت خلفيتهم الدينية، مسلمين أو غير مسلمين. وقد ارتكز طارق رمضان في عرضه حياة الرسول على بعدين هما الإنسانية والنموذجية. واستنادا إلى مجموعة من المصادر الموثوق بها، يقوم طارق رمضان بالتطرق إلى مسار محمد (ص) مُعزِّزاً نصه بأفكار تحليلية عميقة لهذا المسار. هذا الكتاب لا يسلط الضوء على موضوعية كلام الرسول فقط، بل هو أيضا بمثابة تقديم متميز لديننا الحنيف. مارية أم إبراهيم كان الرسول، مع كل التقلبات التي عاشها، في حاجة إلى حياة خاصة مستقرة، ولو أن الخلافات التي كانت تنشب مع زوجاته كانت حادة، إلا أنه كان يحاول ما أمكن تفهم وإرضاء كل واحدة من زوجاته. وتروي عائشة، رضي الله عنها، أن حضور الرسول في البيت كان متميزا، إذ كان يولي الاهتمام الكبير لشؤون البيت ويساعدها في ترتيبه، كما كان يحيك ملابسه ويصلح نعاله. وكانت زوجاته ممتنات لهذه الخصال التي كان يتمتع بها (ص). ومع تحسن الوضعية المادية للرسول والاستقرار بالمدينة، بدأت زوجاته (ص)، شيئا فشيئا، يفرضن رأيهن ووجودهن وهذا ما كان يرحب به محمد (ص)، الذي كان يأخذ بنصائحهن ومشورتهن، غير أن زوجات الرسول مع توالي الانتصارات والغنائم، أصبحن يطلبن دائما المزيد، باعتبار مكانتهن في المجتمع، لكن الرسول سيلقنهن درسا مفاده أنه بإمكانهن مجادلته في كل الأمور، باعتباره زوجا ككل الأزواج، لكن ليس هناك مجال لاستغلال مكانتهن كزوجات للرسول للاستفادة من معاملة خاصة في المجتمع. ومع قدوم الجارية مارية، التي أرسلها المقوقس عظيم القبط هدية لمحمد (ص)، تغيرت الأمور قليلا، إذ قبِل الرسول (ص) بمارية، وطار النبأ إلى بيوت الرسول -صلى الله عليه وسلم- أنه قد اختار مارية المصرية لنفسه، وكانت شابة حلوة جذابة. وكانت زوجات الرسول يشعرن بغيرة مفرطة منها، لأنه كان يقضي معها وقتا طويلا، وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم بقيت مارية وفية إلى أن توفاها الله في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في شهر محرم. ولقد كانت مارية هي أول من تهب لرسول الله (ص) الولد من بعد خديجة، التي لم يبقَ من أولادها سوى فاطمة رضي الله عنها، لكن هذه السعادة لم تُطل سوى أقل من عامين، حيث قدّر الله أن لا يكون رسوله (ص) أباً لأحد ، فتوفى الله تعالى إبراهيم. فقد مرض إبراهيم وانكسر فؤاد أمه، فأرسلت إلى أختها لتقوم معها بتمريضه، ومضت الأيام ولم تظهر علامات الشفاء على إبراهيم ، فأرسلت إلى أبيه ، فجاء الرسول (ص) ليرى ولده الذي وافته المنية بين أحضان والده. فدمعت عينا محمد (ص) وقال: «تَدْمَع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يُرْضي ربَّنا، والله يا إبراهيم، إنا بك لَمَحْزونون». غزوة مؤتة كان الجو بين المسلمين والروم متوترا، خصوصا أن الروم دأبت على مضايقة المسلمين واستفزازهم بكل الطرق، ولقد سجلت عدة محاولات متكررة للتعرض لتجارة المسلمين القادمة من الشام. هذا زيادة على القيام بالسلب والنهب للقوافل التي تمر بطريقهم، ناهيك عما مارسوه من ضغوطات ومضايقات طالت كل مسلم وقع تحت أيديهم. لكن الأذى بلغ ذروته حين بعث رسول الإسلام الحارث بن عمير الأزدي رسولاً إلى ملك بصرى من أرض الشام يدعوه إلى الإسلام، فما كان من ملك بصرى شرحبيل بن عمرو الغساني إلا أن قتل رسول رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، فحزن محمد (ص) كثيرا، إذ كان هذا هو أول رسول له يقتل، على خلاف ما جرت به العادة من إكرام الرسل وعدم التعرّض لهم، فأمر بتجهيز جيش قوامه ثلاثة آلاف مقاتل ولم يجتمع هذا العدد من المقاتلين المسلمين من قبل، إلا في غزوة الأحزاب (الخندق). توقف المسلمون عند مدينة مؤتة وكان عددهم ثلاثة آلاف وعدد الغساسنة والروم مائتا ألف، وأوصاهم الرسول عليه الصلاة والسلام بأن لا يقتلوا امرأةً ولا صغيراً، ولا شيخا ولا يقطعوا شجراً ولا يهدموا بناء .اختار المسلمون، بقياده زيد بن حارثة، الهجوم على المشركين وتم الهجوم بعد صلاه الفجر وكان الهجوم في اليوم الأول هجوما قوي، ذلك أن الروم والغساسنة لم يتوقعوا من جيش صغير البدء بالهجوم، وفي اليوم الثاني بادر المسلمون أيضا بالهجوم وقتل الكثير من الروم وحلفائهم إلى اليوم السادس، حيث بادر الروم بالهجوم، وكان أصعب وأقوى الأيام وفيه استشهد زيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواح، ليختار المسلمون بعد ذلك خالد بن الوليد قائدا لهم. خطة خالد بن الوليد قال خالد بن الوليد للجيش أن يخطو خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء لكي يتفاجأ العدو بالجيش الجديد. أراد خالد بن الوليد أن ينسحب وينجو بجيش المسلمين بدون خسائر، فاعتمد في خطته على الحرب النفسية، حيث أمر عددا من الفرسان بإثارة الغبار خلف الجيش، وبأن تعلو أصواتهم بالتكبير والتهليل، وكذلك قام بتبديل الرايات، حيث جعل المقدمة مؤخرة والميسرة ميمنة، وكان ذلك لكي يظن الروم أن مددا كبيرا وصل المسلمون من المدينة، وهجم خالد بن الوليد على الروم وقاتل حتى وصلوا إلى خيمة قائد الروم، ثم أمر خالد بانسحاب الجيش بطريقة منظمة، وشكوا أن خالدا كان يعد لكمين ليصطاد الروم ولم يتبعوا خالد في انسحابه، وأدرك الروم أنهم وقعوا في الخدعة، لكنهم لم يستطيعوا اللحاق بالمسلمين، وعاد الجيش إلى المدينةالمنورة. وهكذا تحولت نتيجة المواجهة من هزيمة إلى نصر، وأي نصرٍ أكبر من صمود جيش يبلغ عدده ثلاثة آلاف مقاتل أمام جيش عدده مائتا ألف مقاتل . نقض الميثاق جاء في بنود وثيقة الحديبية أن من أحب أن يدخل في عقد محمد (ص) وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين تعتبر جزءاً من ذلك الفريق، وبسبب هذا البند دخلت خزاعة في عهد رسول الله ودخلت بنو بكر في عهد قريش، وصارت كل من القبيلتين في أمن من الأخرى. وقد كانت بين القبيلتين عداوة وتوترات في الجاهلية، فلما جاء الإسلام وقعت هذه الهدنة وأمن كل فريق من الآخر. غير أن بني بكر أرادوا أن يثأروا من خزاعة، فخرج نوفل بن معاوية في جماعة من بني بكر، وأغاروا ليلا على خزاعة فأصابوا منهم رجالا واقتتلوا فيما بينهم، لتدخل بعد ذلك قريش على الخط، حيث أغاثت بني بكر بالسلاح وقاتل معهم رجال من قريش مستغلين ظلمة الليل حتى حازوا خزاعة إلى الحرم. وبمناصرتهم لبني بكر، تكون قريش قد أخلت ببنود ميثاق الحديبية. بعد أن أدركت قريش خطأها وندمت ندما شديدا على ما أقدمت عليه، أرسلت أبا سفيان إلى المدينة ليلاقي رسول الله، غير أنه لم يلق منه جوابا، ثم حاول استخدام قرابته من الرسول عن طريق ابنته أم حبيبة زوجة الرسول، ثم بعد ذلك حاول مع علي، غير أن مساعي أبا سفيان قوبلت ببرود تام، وحينئذ أظلمت الدنيا أمام عينيه ثم رجع إلى مكة خائبا. بعد قدوم عمرو بن سالم الخزاعي، ثم قدوم أبي سفيان، تأكد عند الناس الخبر بنقض الميثاق، فأمرهم رسول الله بالاستعداد للمضي إلى مكة والجهاد في سبيل الله في سرية تامة وجعل القوم يظنون بأنهم متوجهون إلى الشام أو الطائف، وكان ذلك متعمدا لكي لا تعلم القبائل بنواياه.