ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. تحدث ملك المغرب الراحل في كتابه «ذاكرة ملك» الصادر عام 1994 عن الإطاحة بالنظام الملكي في ليبيا عام 1969 وكيف تقبل هذا الحدث فقال: «لم يدهشني ولم يفاجئني، ويمكن القول بأنه كان أمرا لا مفر منه» وأشاد الحسن الثاني بالملك ادريس السنونسي «الرجل المستقيم والشريف»، ولكنه أضاف يقول بأن السنوسي «لم يكن يهتم بتاتا بالشؤون الدنيوية» وخلص إلى القول: «لا أقول عنه بأنه قام بكل شيء للتخلي عن العرش، بل أقول إنه لم يقم بأي شيء من أجل الحفاظ عليه». وكان مبعوث صحيفة «لوموند» الفرنسية قد استفسر رأي الحسن الثاني في التغيير الذي طرأ على نظام الحكم في ليبيا ومدى تأثير ذلك على التعاون بين بلدان المغرب العربي، فأجاب الحسن الثاني بقوله: أود أن أقول لكم في بداية الأمر أني لا أهتم شخصيا بالأنظمة، فتغييرها لا يهمني، لأن الأمر يتعلق بمسألة داخلية. وكنت أعرف أن نظاما مغايرا سيتم إقراره في ليبيا، ولم يكن أحد يجهل أن بعض الهزات قد تحدث بعد الاختفاء الجسدي للملك إدريس، بل كان لا بد من حدوثها، فإن كانت هناك مفاجآت، فإنها لم تتناول الأساس وإنما الوقت، وهذا ما قلته لرئيس مجلس الثورة الليبي. لقد قلت إن عليه أن لا يشعر بأي نقص إزاءنا، لأننا نعتبر أنه كان على موعد مع التاريخ، سواء هو أو شخص آخر، وأنه فقط جاء متقدما على غيره. والشيء الوحيد الذي أريده هو أن يبقى شمال إفريقيا كما هو. إنني لا أحبذ فقدان شخصيته ولا أن نصل إلى مرحلة يغير فيها من اختياراتنا، وأعتقد أنني بذلك أعبر عن التفكير العميق لبلدان شمال إفريقيا، وإذا اقتضى الأمر، فإننا مستعدون لاعتبار ليبيا منطقة منعزلة، ولكننا لا نريد أن يكون النظام الليبي مثار انشغال بالنسبة لبلدان المغرب العربي، ونحن نريد أن تكون ليبيا جزءا من المغرب الكبير، كما كنا نتمنى ذلك في السابق، ولكن إذا أرادت ليبيا عدم البقاء في المغرب العربي، فإننا سنطلب منها عندئذ أن لا تقضي على المغرب العربي الصغير. صدرت هذه التصريحات للصحيفة الباريزية بتاريخ 6 فبراير 1970. وكان الحسن الثاني أكثر وضوحا وجرأة في حديث له مع مجلة «نوفيل أبسرفاتور» حينما صرح لمديرها جان دانييل يوم 25 يونيو 1970 بقوله: «إذا سقطت ملكية فمعنى ذلك أن عهدها قد انتهى وأنها تستحق ذلك، وقد كان الكل يتنبأ منذ زمان بعيد بالأحداث التي وقعت في ليبيا». كان المغرب قد أقام، غداة الاستقلال، علاقات عادية وودية مع ليبيا الملكية، التي قدم أول سفير لها أوراق اعتماده للملك محمد الخامس يوم 17 شتنبر 1958 وكانت ليبيا حاضرة في المؤتمر الإفريقي المنعقد يوم 3 يناير 1961 بالدار البيضاء بواسطة ولي العهد الأمير حسن الرضا إلى جانب الرئيس جمال عبد الناصر وقادة إفريقيا المتحررة أحمد سيكوتوري (غينيا) موديبو كيتا (مالي) قوامي نكرومة (غانا) وفرحات عباس (الجزائر) وهم يضعون اللمسات الأولى في صرح الوحدة الإفريقية. كما حضر الأمير حسن رضا تشييع جنازة الملك محمد الخامس في الرباط نيابة عن عمه الملك ادريس السنوسي، وقام الحسن الثاني يوم تاسع مارس 1965 بزيارة ليبيا وهو في طريقه إلى القاهرة للقيام بزيارة رسمية لمصر، وفي طرابلس التقى الأمير حسن الرضا قبل أن يتوجه يوم 11 مارس إلى مدينة طبرق (1.500 كيلومتر شرق طرابلس على شاطئ البحر الأبيض المتوسط)، حيث كان اللقاء مع الملك ادريس السنوسي. وخلال الاستقبال الذي خصصته بلدية طرابلس لملك المغرب، أشاد الحسن الثاني بهذه العاصمة وبمكانتها وتاريخها والدور الذي اضطلعت به في منطقة المغرب العربي منذ العصور القديمة. قال الحسن الثاني بهذا الخصوص: «طرابلس مدينة عزيزة علينا أثيرة لدينا يذكرها المغاربة، فيذكرون معها الإيناس واللطف والفضل والنبل، كما يذكرون صلاتها الوثيقة ببلدهم، فمنها امتد مد الإسلام المبارك إلى المغرب الأقصى وعن طريقها اجتازت العربية إلى ألسنة أهله، وعبرها اجتازت إليه قبائل وعشائر عربية كثيرة، وهي إلى ذلك إحدى حواضر الدولة الموحدية ومحط ركب الحاج المغربي ومقصد العلماء والطلبة والصلاح المغاربة، وفي وصفها ووصف أهلها كتب الرحالون من أهل بلدنا صفحات ناصعة مشرقة وإلى رؤسائها المجاهدين وقادتها البحريين أهدى جدنا المنعم السلطان المولى سليمان شطرا من أسطولنا الوطني». أهدت بلدية طرابلس للملك الحسن الثاني مفتاح المدينة وقال عنه: إذا كان هذا المفتاح سيفتح شيئا، فهو القلوب على مصراعيها لتزداد عطفا وتقديرا ومحبة ومودة، وتعمر بالطموح والعمل لإعزاز أوطاننا وإسعاد شعوبنا ورفع شأن أمتنا العربية المجيدة». هذه كانت نظرة الملك الحسن الثاني لمستقبل العلاقات المغربية الليبية القائمة على ماض مشترك حافل بالأمجاد، كما أكد ذلك البلاغ المشترك الليبي المغربي الصادر في ختام الزيارة، ولكن الشاعر صدق عندما قال «تجري الرياح بما لا تشتهي السفن» حقا ! لقد هبت رياح وعواصف هوجاء أبعدت سفن الوئام المغربي الليبي ردحا من الزمن عن شاطئ الأمان والوفاق. لقد اجتازت العلاقات المغربية الليبية فترات صعبة منذ ثورة الفاتح عام 1969 التي حملت العقيد القذافي إلى سدة الحكم، فيما سيسمى بالجمهورية العربية الليبية أولا، ثم بالجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى بعد إنهاء النظام الملكي الذي عاشت ليبيا في ظله فترة طويلة. وتميزت هذه الفترات الصعبة، بصفة خاصة، باحتضان القذافي للمعارضين المغاربة المناوئين لنظام الحسن الثاني، شأنه في ذلك شأن الرئيس هواري بومدين في الجزائر، حيث لم يترددوا معا في تزويد المعارضة المغربية بالمال والسلاح والدعم الإعلامي. كانت للإذاعة الليبية برامج موجهة نحو المغرب، وكانت ذات طابع عدائي يستهدف المس بمقدسات البلاد بالأساس وبت الشكوك وتأليب المواطنين ضد نظامهم الملكي. وصادفت هذه البرامج حقبة عرفت بعدة أحداث خطيرة: محاولة الانقلاب الفاشلة الأولى عام 1971 والمعروفة بأحداث الصخيرات، وبعدها بسنة واحدة الهجوم الجوي الذي قامت به طائرات سلاح الجو الملكي ضد الطائرة الملكية وهي عائدة من فرنسا وعلى متنها الحسن الثاني، ثم أحداث الأطلس المتوسط عام 1973 والتي فجرتها العناصر المسلحة التابعة للمعارضة المغربية التي تسللت داخل التراب الوطني قادمة من الجزائر وليبيا وسوريا. وقد حظيت كل هذه الأحداث الخطيرة بتأييد ليبي علني عن طريق برامج الإذاعة الليبية. كانت مواقف ليبيا غير ودية، بل يمكن القول إنها كانت عدائية ضد المغرب خلال المؤامرتين اللتين استهدفتا الملك الحسن الثاني، سواء في الصخيرات عام 1971 أو ضد الطائرة الملكية عام 1972. فقد سارعت ليبيا إلى التهليل بالمحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات وإعلان وقوفها إلى جانب من سمتهم «بالضباط الأحرار» وأعادت الكرة من جديد عندما وقعت المحاولة الثانية (الهجوم على الطائرة الملكية في الجو)، ففي أول خطاب للحسن الثاني بعد أحداث الصخيرات، صرح بأن «إذاعة ليبيا أعلنت أنها بجانب الثوار، ونددت بكل من يقوم بعمل ضد هؤلاء الضباط الأحرار وأن جيشها وقوتها وعتادها بجانب المشوشين»، وهذا ما أدى إلى فرض حصار على مقر السفارة الليبية في الرباط. وفي المرة الثانية، ذهب العقيد القذافي بعيدا، حيث اتصل هاتفيا بالرئيس الجزائري هواري بومدين يوم حادثة الطائرة الملكية، التي هاجمتها طائرات تابعة لسلاح الجو المغربي، ليطلب منه السماح لطائراته بعبور أجواء التراب الجزائري، لأنه يريد أن يرسل سربا من المقاتلات لمساعدة المتمردين وقصف القصر الملكي. وقد نقل الملك الحسن الثاني هذه الرواية في كتابه «ذاكرة ملك» كما رواها له الرئيس الجزائري بنفسه عبر الهاتف عندما اتصل به مباشرة، بعد أن بلغه خبر الهجوم على الطائرة الملكية. وأضاف الرئيس هواري بومدين (يقول العاهل المغربي) «لقد طلب مني القذافي أيضا السماح لطائراته بالتزود بالوقود في الجزائر، وتدركون جيدا أنني لم أكن لأسمح له بذلك». وأمام الحملات الإذاعية الصادرة من ليبيا ضد المغرب، لم يكن أمام الحكومة المغربية إلا أن تلجأ هي أيضا لحرب الأثير لتمكين الإذاعة المغربية من القيام بحملات إذاعية مضادة، خاصة وأنه كان لدى الجانب المغربي كثيرا ما يقوله بخصوص الوضع الليبي وسياسة القذافي داخليا وخارجيا. واتضح فيما بعد أن برامج إذاعة ليبيا نحو المغرب كانت من إعداد وتقديم المعارضة المغربية المستقرة في ليبيا، وكثيرا ما كانت هذه الإذاعة تستعمل اللغة الدارجة المغربية في مخاطبة المستمعين إليها في المملكة. وقد اتضحت هذه الحقيقة عندما عاد رجال المعارضة إلى وطنهم على إثر العفو الملكي الذي أصدره الحسن الثاني في حقهم، وصدرت لهم كتابات مفصلة حول هذه الإذاعة وأسماء من كانوا يشرفون عليها، آخرها ما نشرته صحيفة «الاتحاد الاشتراكي» بعد وفاة المناضل الاشتراكي الصحافي محمد بن يحيى في غشت 2008 من أن بن يحيى «عمل في الإذاعة التي أسسها الاتحاديون في ليبيا». مرت العلاقات المغربية الليبية عدة مرات (بمناطق اضطراب)، كما يقال، حتى وصلت مرحلة قطع العلاقات الدبلوماسية لفترة طويلة. ورغم عودة هذه العلاقات الدبلوماسية لفترة طويلة. ورغم عودة هذه العلاقات إلى سالف عهدها ظلت ليبيا على موقفها من قضية الصحراء. وفي هذا الصدد، صرح الحسن الثاني خلال مؤتمر صافي عقده في باري (29 يناير 1982) بقوله: «لقد أعيد ربط العلاقات مع ليبيا، غير أن ليبيا لا تزال المتواطئ الرئيسي رقم واحد مع البوليساريو، فلولا أموال ليبيا لما كان البوليساريو، ولولا صواريخ صام 6 الليبية لما تمكن البوليساريو من الوقوف على رجليه، ذلك أنه منذ ست سنوات ورجالنا يسقطون بسبب الأموال والأسلحة الليبية». كانت بوادر التصالح قد ظهرت قبل انعقاد القمة الإفريقية في نيروبي عام 1981، وهي القمة التي أعلن خلالها الحسن الثاني قبول الاستفتاء في الصحراء، وقد استعرض الملك هذه المرحلة في ندوة صحافية خاصة بإذاعة «فرانس أنتير» (17 مارس 1982) حيث قال: «حين أشعرني الرئيس القذافي أنه راغب في المصالحة (وكان هذا قبل اجتماع قمة نيروبي بأيام) قلت في نفسي: على أية حال إنه يمد إلى يده ليلة معركة كان ممكنا أن نتواجه فيها، فلم لا؟ فلنتصالح إذا كان مصرا على المراضاة، فسأكون راضيا وأظل وفيا، وإذا أراد أن يقف في منتصف الطريق فذلك شأنه». ويلاحظ الملك أنه طيلة المداولات الجارية في مؤتمر نيروبي حول قضية الصحراء، لم تنطق ليبيا ببنت شفة، كما أن الذين يدورون عادة في فلكها لم يتحركوا هم أيضا، ويضيف: «ومن باب اللياقة كان علي أن أبادل الوفد الليبي مسلكه، بحيث صمت عن الكلام عندما تمت مناقشة موضوع ترشيح طرابلس لاحتضان القمة الإفريقية المقبلة». «ومرة أخرى حدث ما كنت أتوقعه» يقول الحسن الثاني: «إذ تراجع السيد القذافي عن موقفه حيال المغرب ولذلك تراجع المغرب هو أيضا عن موقفه إزاء ليبيا».