ينبش الإعلامي محمد بن ددوش في ذاكرته الإذاعية قبل 60 سنة، ويسجل في كتابه «رحلة حياتي مع الميكروفون» مجموعة من الذكريات والمشاهدات التي استخلصها من عمله في مجال الإعلام السمعي البصري، وهي ذكريات موزعة على عدد من الفصول تبدأ بأجواء عودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى، وانطلاقة بناء الدولة المستقلة بعد التحرر من الاحتلال الفرنسي والإسباني، مبرزا موقع الإذاعة المغربية في خضم التيارات السياسية التي عرفتها الساحة المغربية في بداية عهد الاستقلال ومع توالي الحكومات الأولى وتعاقب المديرين الأوائل على المؤسسات الإعلامية. ويرصد الكتاب مكانة وعلاقة الملك الراحل الحسن الثاني بعالم الصحافة ومكانة الإذاعة والتلفزة في حياته، مع الانطباعات التي سجلها المؤلف خلال مواظبته على تغطية الأحداث الهامة التي عاشتها المملكة، وفي مقدمتها حدث المسيرة الخضراء وهيمنة الداخلية على الإذاعة والتلفزة، وضمن الكتاب وقائع تاريخية تنشر لأول مرة حول احتلال الإذاعة خلال محاولة الانقلاب التي كان قصر الصخيرات مسرحا لها في سنة 1971. بقي محمد رضا بهلوي فيما تبقى من عمره معترفا للملك الحسن الثاني بما قدمه له في الأيام الحالكة، وسجل هذا الاعتراف في كتابه «جواب للتاريخ»، الصادر في آخر أيام حياته: «إنني عاجز عن إيجاد الكلمات لأعبر بها عن الاعتراف الذي أدين به إليه للموقف الذي اتخذه تجاهي وتجاه عائلتي بعد الأحداث الأليمة، وكان هذا الموقف من جانبه يمثل تحديا لكل أولئك الذين نسوا الدروس السامية التي جاء بها الرسول عليه السلام». رغم الظروف المأساوية التي أحاطت بوضعية الشاه بعد خروجه من بلاده هائما يبحث عن ملجإ يؤويه وصدر يحتضنه، لم يكن الحسن الثاني يتردد في الإفصاح عن بعض آرائه في سياسة محمد رضا بهلوي، التي أدت في النهاية إلى ما آل إليه الوضع في إيران، والذي كان ينظر إليه بقلق كبير. فقد اعترف الملك الراحل في تصريحاته أمام النادي الصحافي الأمريكي في واشنطن (خلال زيارته في نوفمبر 1978) بوجود أزمة ثقة عميقة بين الشاه والشعب الإيراني، ورغم قوله بأنه يرفض إصدار حكم على الشاه، فقد كان يرى والشاه لم يغادر بعد عاصمة بلاده ضرورة تنظيم انتخابات برلمانية حرة تمكن الشاه من معرفة القوى الموجودة في الميدان، وضرورة الحوار مع رجال الدين، ولاحظ في هذا الصدد في لقاء مع صحافيين فرنسيين عام 1979 «أن الملكية التي تهمل رجال الدين تخلق بالضرورة توترات في المجتمع». ومن بين الاختلالات التي سجلها الحسن الثاني في سياسة شاه إيران وانتقدها بصراحة في أحاديثه الصحافية، نزعة اللائكية التي طبعت الملكية الإيرانية: «لو أن الشاه قبل أن لا يقتصر على اللعب بورقة العلمانية لانضمت إليه الغالبية العظمى من الأئمة وسارت في ركبه». كما انتقد بشدة مهرجان بيرسيبوليس (لم يحضره الحسن الثاني) وما أحاط به من بذخ مادي وتحدي سافر لمشاعر المسلمين داخل وخارج إيران، تخليدا لمرور أزيد من ألفي سنة على وجود فارس، ضاربا عرض الحائط بكل ما حملته الحضارة العربية الإسلامية لهذا البلد منذ دخول الإسلام إليه. وقد ذكر الحسن الثاني في إحدى المرات بقول الرسول عليه السلام «لو كان العلم معلقا بالثريا لأدركه رجال من فارس» وأضاف يقول معقبا على هذا الحديث النبوي: الثريا كانت دائمة وفارس كان دائما ولكن السُّلم الذي وصل به فارس إلى الثريا هو العرب. فاختلاط العرب بالفرس هو الذي جعلهم يصلون إلى ما وصلوا إليه من تضلع في علم الحديث والفقه». وانتقد الحسن الثاني، علانية، أيضا، التخلي عن التقويم الهجري «الذي ظل قائما 14 قرنا في العالم الإسلامي» وتعويضه بالتقويم الإمبراطوري وقال في حديث للتلفزة الفرنسية في أبريل 1980: «كان ذلك تهجما مجانيا من طرف النظام الإيراني ضد 14 قرنا من الديانة والفكر والفلسفة». وكانت للملك الحسن الثاني نظرة خاصة لمستقبل المنطقة في ضوء الوضع السائد في إيران غداة سيطرة الإسلاميين على الحكم «قد يؤدي إلى وقوع كارثة عالمية» وتتمثل هذه الكارثة في نظره كما شرحها في تصريحاته لصحيفة «نيويورك تايمز» بتاريخ 10 نوفمبر 1978 على واجهتين، الأولى حرمان الغرب من البترول والثانية تعرض الأماكن المقدسة في المملكة العربية السعودية إلى الخطر، «مما يؤدي إلى نشوب حرب مقدسة من طرف مسلمي العالم»، مؤكدا أن هذه الحرب لن تكون سوى شعلة من الكراهية الدينية التي ستعم أرجاء العالم. فهل ستصدق هذه الرؤيا بالنظر إلى ما تعيشه حاليا منطقة الشرق الأوسط وما تشعر به دول الخليج العربية من ضغوط إيرانية متزايدة وما تعيشه إيران نفسها من صراع مع القوى الغربية، التي تسعى إلى حرمانها، ظلما وعدوانا، من حق اكتساب المناعة لوجودها والدفاع عن نفسها، وما يعيشه العرب والمسلمون جميعا من المحن أمام العدوان الإسرائيلي المتزايد على الشعب الفلسطيني ومن مناورات أعداء الإسلام عبر العالم؟ ذلك هو السؤال الكبير العريض الذي نستخلصه من التطورات التي عرضناها في هذه الصفحات. خلال شهر رمضان سنة 1983، زار المغرب الزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، في نطاق زيارات قام بها لعدد من الدول العربية، التي لم تكن علاقات ليبيا بها على أحسن ما يرام، وغايته من هذه الزيارات كما قال تذويب المشاكل القائمة معها. كان المغرب من بين هذه الدول، حيث كانت العلاقات المغربية الليبية تمر بأصعب مراحلها نتيجة لموقف الجماهيرية العربية الليبية من قضية الصحراء المغربية المسترجعة من إسبانيا. لقد نصب القذافي نفسه معاديا لوحدة المغرب الترابية، بل ذهب إلى أبعد من ذلك، حين ساهم في تأسيس جبهة البوليساريو الانفصالية وأغدق عليها المال والسلاح. وهذا ما أكده الملك الحسن الثاني بنفسه في كتابه «ّذاكرة ملك»، إذ قال: «إن القذافي كان وراء ميلاد البوليساريو وكان أول من أمدهم بالسلاح». في هذا الجو المكهرب، جاءت زيارة العقيد القذافي للمغرب، فقد نزل من الطائرة التي أقلته من ليبيا، في مطار سلا، الرباط يوم 30 يونيو وهو يرتدي لباسا عسكريا، ووجد في استقباله العاهل المغربي وهو يرتدي من جهته اللباس العسكري (أهو لقاء المجابهة؟). كان لظهورهما بهذا اللباس أكثر من دلالة، وكان في حينها مثار ملاحظات وتعاليق متنوعة بين الحاضرين في المطار من مسؤولين ورجال الإعلام، إذ لم يكن عاديا أن يأتي رئيس دولة مدني في زيارة بلد في وقت السلام وهو يرتدي لباسا عسكريا، خاصة وأن القذافي جاء إلى المغرب لتذويب المشاكل القائمة بين البلدين. وما فعله الحسن الثاني في اعتقادي كان ردا طبيعيا، بعدما بلغه أن القذافي قادم إليه بلباس عسكري. ومع كل هذه الأجواء المشحونة بالتوتر، مر حفل الاستقبال الرسمي في المطار كما يجب أن يمر وكما تقتضيه التقاليد المغربية الأصيلة في استقبال ضيوفه وبحضور أعضاء الحكومة والسلك الدبلوماسي. جاء العقيد معمر القذافي إلى الحكم في ليبيا بعد الانقلاب الذي تزعمه ضد النظام الملكي. وصادف أن مؤتمر القمة العربي الخامس انعقد في المغرب في أواخر دجنبر 1969 بعد فترة قصيرة من قيام الثورة الليبية، وقد حرص الزعيم الليبي على المشاركة في هذا المؤتمر الذي سيتيح له للمرة الأولى الفرصة للقاء الدول العربية الحاضرين في الرباط، وفي ذات الوقت يمكن القادة العرب من التعرف على حاكم ليبيا الجديد. وفي هذا المؤتمر، كان أول لقاء بينه وبين الحسن الثاني، ومنذ البداية لم يكن هذا الاتصال الأول مثمرا على مستوى العلاقات الثنائية. وقد قال الحسن الثاني في «ذاكرة ملك» بخصوص هذا اللقاء الأول من نوعه: «اكتفينا في هذا المؤتمر بمصافحة بعضنا البعض»، ويلاحظ العاهل المغربي في الوقت نفسه بأن الأمور بدأت تتوتر منذ اليوم الأول، ويصف هذا الجو بقوله: «لاحظت إلى أي حد كان غير متحكم في أعصابه وقليل الخبرة، فخلال تلاوة التوصيات، على سبيل المثال، كان يكفي أن أقترح تعويض كلمة بأخرى تبدو لي أكثر ملاءمة، لينهض معارضا في الحال، وبذلك كانت الأيام الثلاثة التي استغرقتها القمة بمثابة حرب مفتوحة بيننا، والقذافي كان يعتبر كل من يعتلي عرشا خائنا بالضرورة». وتميزت مشاعر العقيد القذافي في مناوءة الملكية، خلال المؤتمر، بمضايقة العاهل السعودي الملك فيصل «ومناهضته له إلى حد الإهانة» كما قال الحسن الثاني. ويتابع شارحا الأجواء التي كانت سائدة بقوله: «لقد جرت الجلسات في جو مشحون بالتوتر، حيث كان القذافي يضاعف من تلميحاته المزعجة، بينما كان الملك فيصل، الذي كان رزينا وهادئا، لا يرد بشيء ولا يأبه بما يوجه له». ويظهر من هذا أن القذافي ربما جاء إلى المؤتمر، المنعقد في دولة ملكية عريقة، يحمل معه حساسية خاصة إزاء الأنظمة الملكية، ولذلك حاول التشويش على كل ما هو ملكي في هذا المؤتمر، وظهر وكأنه مزهو «برفقته للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي كان يعتبره مثله الأعلى». وكان الرئيس عبد الناصر في قاعة المؤتمر يجلس بين العقيد القذافي والملك فيصل. وقد لاحظ الحسن الثاني في كتاب «ذاكرة ملك» أن الرئيس عبد الناصر كان دائما يحاول تهدئة العقيد معمر القذافي. وكانت القمة العربية الخامسة آخر قمة عربية يحضرها الرئيس المصري الذي وافاه الأجل المحتوم بعد مرور أقل من سنة على انعقاد مؤتمر الرباط. ومنذ ذلك التاريخ، والعلاقات المغربية الليبية بين مد وجزر، حتى قال الحسن الثاني فيما بعد: «كان القذافي، إلى حدود الثمانينات، يبدو مزعجا للغاية» وخلال حقبة طويلة «كان كل واحد منا يتجاهل الآخر». وبالعودة قليلا إلى الوراء، تجدر الإشارة إلى أن الملك الحسن الثاني اعتبر الانقلاب الذي قاده العقيد القذافي ضد النظام الملكي الليبي، قبل هذا الوقت بأربعة أشهر، حدثا داخليا ليبيا ولم يكن ليأخذه في الاعتبار بالنسبة للعلاقات بين البلدين. لكن المواقف التي أبان عنها الزعيم الليبي منذ البداية ضد الحسن الثاني غيرت مجرى هذه العلاقات ودفعتها نحو دروب الصراعات الظاهرة والخفية طيلة عهود من الزمن.