يشكل ارتباك الحكومة في مقاربة العديد من الملفات إحدى السمات البارزة في تدبيرها للشأن العام. فمثلا، شكل التردد والتخبط المتواصل في تحديد موعد الاستحقاقات الانتخابية المقبلة أمرا أقلق العديد من المواطنين والفاعلين السياسيين، فما بين 7 أكتوبر وال27 منه، و11 نونبر وال25 منه، يتضح عجز الحكومة -«وعلى رأسها» وزارة الداخلية- عن امتلاك رؤية وطنية للموضوع، وارتهانها لحسابات ضيقة محدودة. وقد قلت عمدا «وعلى رأسها» وزارة الداخلية، لأن الوزارة الأولى لو كانت ترأس الحكومة، فعلا، لكانت هي التي تشرف على الحوار في موضوع الإعداد لا وزارة الداخلية، لكن هذه الأخيرة لا تزال هي «أم الوزارات» التي تتحكم في «أبيها» الوزارة الأولى. إن ملف إعداد الانتخابات ملف سياسي بامتياز وليس ملفا أمنيا، وتحديد موعدها قرار سياسي أساسا وليس مجرد قرار إداري تنظيمي، فلماذا تتولى وزارة الداخلية التحكم فيهما؟ هذا التخبط نجده أيضا واضحا في مقاربة موضوع مشاركة مغاربة الخارج في الانتخابات التشريعية العامة، وهو موضوع لم يعد من الممكن تجاهله أو التعامل معه خارج مطالب هؤلاء المغاربة، ويتأكد هذا مع تجدد المعطيات وتطورها. أول تلك المعطيات أن عدد المغاربة المقيمين في الخارج يفوق اليوم أربعة ملايين نسمة، أي حوالي 15 في المائة من مجموع ساكنة الوطن، فعددهم بالتالي يفوق عدد سكان معظم جهات المملكة. فلا يعقل أن تبقى الحكومة داسة رأسها في الرمال كأن ليس هناك أي مشكل، أو كأن كل شيء على ما يرام. وهناك ديمقراطيات كثيرة عبر العالم تشرك مواطنيها القاطنين في الخارج، وخصوصا إذا كان عددهم كبيرا. فلمَ لا يكون الحال كذلك بالنسبة إلى المغرب وجالياتُه تعد من أكبر الجاليات في دول المهجر. ثاني المعطيات يتمثل في إقرار الدستور المغربي الجديد بالمواطنة الكاملة لمغاربة الخارج «بما فيها حق التصويت والترشيح في الانتخابات»، كما ورد نصا في الفصل 17 منه. ولم يكتف بذلك، بل أضاف حرفيا أنه «يمكنهم تقديم ترشيحاتهم للانتخابات على مستوى اللوائح والدوائر الانتخابية، المحلية والجهوية والوطنية». وهذا إقرار صريح بهذا الحق الطبيعي الذي لم يكن ليحتاج إلى كل هذا التفصيل لولا النقاش الحاد في الساحة الوطنية حول الموضوع، ولولا الارتباك الحكومي المستمر منذ سنوات طويلة. ولم يكتف الفصل الدستوري بهذا، بل أضاف أن على القانون أن يحدد «المعايير الخاصة بالأهلية للانتخاب وحالات التنافي»، ويحدد «شروط وكيفيات الممارسة الفعلية لحق التصويت وحق الترشيح، انطلاقا من بلدان الإقامة». إذن، فمغاربة الخارج من حقهم أن يتمتعوا بحق المشاركة الانتخابية «من بلدان الإقامة». وهي عبارة تعني تمتعهم بها انطلاقا من مكان إقامتهم، فأي مقتضى قانوني يلزمهم بالرجوع إلى المغرب لممارسة حقهم في التصويت والترشيح غير دستوري، ويعتبر شططا وتعسفا على فئات واسعة من المغاربة. ولا ننسى أن الحق المذكور كان قد أقره الخطاب الملكي ليوم 6 نونبر 2005 دون أن يجد منذ ذلك الوقت طريقه إلى التنفيذ. المعطى الثالث أن مغاربة الخارج قد طالبوا بذلك بقوة، من خلال العديد من العرائض والمذكرات والبيانات التي أصدرتها جمعيات وائتلافات واسعة. وقد قدموا ثماني مذكرات اقتراحية إلى اللجنة المكلفة بإعداد مسودة الدستور، وهو تعبير عن اهتمام واستعداد كبيرين للإسهام في الأوراش التي تعرفها بلادهم. وفي كل تلك الوثائق الصادرة عنهم، يؤكدون أنهم يعتبرون المشاركة في الانتخابات التشريعية أثمن تعبير عن المواطنة. المعطى الرابع هو تجربة نائبة برلمانية من إيطاليا في الولاية التشريعية الحالية، كانت قد نجحت ضمن إحدى اللوائح الوطنية. وقد برهنت عن إمكانية العيش مع مغاربة العالم وهمومهم ومشاكلهم، وفي الوقت نفسه الحضور المستمر والفاعل داخل البرلمان. وطرحت بحرارة وبانتظام مختلف مشكلات الجالية المغربية كما لم تطرح من قِبل أي برلماني آخر. ما هو العائق، إذن، أمام التلكؤ المستمر في فتح المجال لمشاركة مغاربة العالم المشاركة الفاعلة الحقيقية في الانتخابات؟ وهل عجزت الحكومات المتتالية عن معالجة العوائق «التقنية» أو «التنظيمية» التي يتذرع بها عادة؟ أم إنها لا تتخذ أي إجراءات عملية في هذا الاتجاه لعدم توفرها على الرغبة السياسية؟ لقد قدمت وزارة الداخلية، قبيل انتخابات شتنبر 2002، مبررات مثل ضيق الوقت للإعداد وصعوبة التقطيع في بلدان المهجر وضرورة استشارة دول الاستقبال والتفاهم معها. وتعهدت بحل تلك الإشكالات في أفق انتخابات 2007. لكن المبررات ذاتها، أو قريب منها، طرحت آنذاك. واليوم، لا نرى إلا الصمت عن هذه القضية. ولئن كان المنتظر هو التنصيص صراحة على دوائر انتخابية في الخارج تتيح لمغاربة العالم المشاركة فيها بترشيح لوائح والتصويت عليها، مثل باقي الدوائر داخل الوطن، فإن الذي يبدو هو أن الأمور لا تسير في هذا الاتجاه. وبالمقابل، يبدو أن مقترح دمج مرشحين عن مغاربة الخارج في اللائحة الوطنية، والذي تقدمت به بعض الأحزاب السياسية، ممكن تماما، وبه تسقط كل الحجج والذرائع التي تساق لمنع هؤلاء المغاربة من المشاركة الانتخابية. فكما صوتوا على مشروع الدستور يوم فاتح يوليوز الماضي، يمكنهم أن يصوتوا على اللائحة الوطنية. وبهذا نسلك طريقا وسطا، بوصفه مرحلة انتقالية، يمكن مغاربة العالم من التصويت داخل الوطن على اللائحتين المحلية والوطنية بالنسبة إلى من كان مسجلا في اللائحة الانتخابية في دائرة معينة، أو التصويت خارج الوطن في القنصلية أو مكتب التصويت القريب منه. فهل ستتحلى أحزاب الحكومة بالشجاعة الكافية وتصر على إنجاح هذا المطلب أم إنها ستتحمل مرة أخرى مسؤولية إرجاء الأمر إلى دورة أخرى، وتجاري وزارة الداخلية في موضوع ليس من اختصاصها، إن سياسيا أو تنظيميا؟