سبق لبلادنا أن عرفت ثلاثة برامج متعلقة بالعفو الجبائي على هذا النحو: سنوات 1984 و1990 وآخرها سنة 1998 على إثر تنصيب حكومة التناوب برئاسة الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي. وكانت أسباب اتخاذ هذه الإجراءات في ظاهرها تغيير قوانين أو الشروع في تطبيق أنظمة جديدة كالنظام المحاسبي سنة 1990، وفي جوهرها تمويل عجز الميزانية وطي صفحة المخالفات وتصفية ملفات المنازعة المتراكمة. إذن، لماذا لا تعاود الحكومة إقرار هذا البرنامج مرة أخرى في هذه الظروف الاستثنائية، وذلك للأسباب التالية: -1 أن هذه المساهمة ستوفر للخزينة موارد إضافية لتمويل العجز إذا استجاب أغلب الملزمين، ذلك أن آخر عفو جبائي وفر حوالي 3،7 ملايير درهم، واليوم إذا تم اعتمادها يمكن تحصيل ضِعف هذا الرقم أو ثلاثة أضعافه في حالة ما إذا تم تسويقه بنجاعة، خصوصا وأن عدد الملزمين مقارنة بعددهم سنة 1998 قد ارتفع بنفس النسبة. -2 أن إمكانيات الإدارة الضريبية المادية والبشرية لن تستطيع، على الأقل في الأمد القريب، ردع آفة الغش والتهرب ونقصان التصريحات بالنظر إلى عدد المراقبين مقارنة بعدد المقاولات وثقل المساطر، ولو أن الإدارة شرعت في تطبيق برامج معلوماتية متطورة جدا لبلورة برنامج المقاولات القابلة للفحص ومجموعة من الإجراءات المرتبطة بالبحث وتقصي المعلومات والتنسيق مع إدارات أخرى للحد من ظاهرتي التهرب والغش، ولكن هذه البرامج لن تحقق النتائج المتوخاة في الأمد القريب. -3 أن الإدارة الضريبية طبقت، فعلا، برنامجا التقادم المبكر لفائدة المنعشين العقاريين طيلة سنة 2009 وبداية 2010، حيث سمحت لهم الإدارة بتقديم إقرارات تصحيحية يتم من خلالها الرفع من القيم العقارية المصرح بها إلى ما بين 15 في المائة و25 أو حتى 30 في المائة، كاعتراف منهم بانتشار ظاهرة النوار في هذا الميدان وإخفاء نسبة من ثمن بيع العقارات، ثم أداء الضرائب التكميلية مع الاستفادة من تخفيض جزئي من الغرامات وفوائد التأخير. ولم تكن هذه الإجراءات مؤطرة بأي نص قانوني (مرسوم أو قرار وزاري) ولا أي منشور يحدد معايير وشروط قبول هذه التصريحات، بل أكثر من دلك أن أغلب هذه الملفات تمت معالجتها والمفاوضة بشأنها وتصفيتها على المستوى المركزي في عهد المدير العام السابق، في إطار السلطة التقديرية للإدارة في مجال التصالح، والتي من المفروض أنها خاضعة لرقابة المجلس الأعلى للحسابات والمفتشية العامة للمالية؟ -4 لقد تضمن قانون مالية 2011 عدة مقتضيات تصب في اتجاه إرساء عفو ضريبي وتقادم مبكر لفائدة الأشخاص والمقاولات العاملة في القطاع غير المهيكل قبل هذا التاريخ، والتي تختار التصريح بنشاطها والتسجيل في لوائح الرسم المهني، وذلك مقابل تغاضي الإدارة الضريبية عن الماضي وإخضاع هؤلاء الملزمين الجدد للتضريب ابتداء من تاريخ التصريح (المادة 7 من قانون مالية 2011 البند XVIII ج عدد 5904 مكرر الصادرة بتاريخ 30-10-2010)، وهذا الاختيار مفتوح وساري المفعول إلى نهاية سنة 2012، زيادة على الحوافز الممنوحة للمقاولات الفردية التي تختار التحول إلى شركات أموال (البند XVII من نفس القانون المالي). -5 تمكين باقي المقاولات، خصوصا الصغرى والمتوسطة، بعد أداء مساهمتها، من الشعور بنوع من الطمأنينة والتحرر من هاجس الخوف من الفحص الجبائي والإقدام على الاستثمار بتوفرها على صفحة جديدة خالية من جميع المخالفات. -6 إرساء عفو جبائي من شأنه أن يساعد على بث روح التصالح، خصوصا في هذه الفترة التي تشهد فيها بلادنا تغييرا جوهريا وتعاقدا جديدا بين الحاكمين والمحكومين، ذلك أن التهرب وتقديم تصريحات ناقصة ليس مردهما دائما إلى الرغبة في توفير مبالغ مالية وعدم المساهمة في الأعباء العامة، بل يكونان مرتبطين بعدم الحصول على المقابل من خدمات، خصوصا في مجال التعليم والصحة والأمن والبنيات التحتية، كما أن التهرب الضريبي قد يكون رد فعل على ظاهرة الفساد والريع وعدم الثقة في الحكامة والمشروع المجتمعي القائم. -7 أضف إلى ذلك أن أعتى مجرمي الحق العام يستفيدون من العفو، فلماذا لا نمتع دافعي الضرائب بالتغاضي عن أخطاء عفوية أو عن جهل بأعقد القوانين (القانون الضريبي) أو إرادية للأسباب التي ذكرناها سابقا؟ لذلك ومادمنا نسير على طريق التغيير الإيجابي والسلمي في إطار دستور جديد، فلما لا تطوي الحكومة الحالية صفحة من صفحات الماضي المتعلق بالمخالفات الجبائية وإعطاء الفرصة للمواطنين لتحسين أدائهم مستقبلا في المساهمة في تمويل الأعباء العامة عن طريق الإلزام الضريبي. -8 تبنى الدستور الجديد مبدأ الجهوية المتقدمة الذي يعني أن الجهات ستتوفر على استقلال مالي وموارد جبائية وغيرها لتمويل التنمية الجهوية، وبالتالي فإن بنية النظام الضريبي ستتغير، سواء بالتخلي عن بعض الضرائب والرسوم للجهات أو باقتسام المادة الخاضعة للضريبة بين المركز والجهة. أما مساوئ إقرار برنامج المساهمة الإبرائية الذي يؤدي إلى عفو ضريبي، فإنه يضر بدافعي الضريبة النزهاء الذين تعودوا على تقديم إقراراتهم الصادقة وأداء المستحقات الجبائية في الآجال المحددة قانونا، حيث سيشعرون بنوع من الغبن تجاه هذا التسامح في حق الملزمين الذين يخفون، جزئيا أو كليا، بعض مداخيلهم ولا يصرحون بها، كما أن هذه الفئة الأخيرة ستستمر في ممارسة أساليب التهرب والغش على أمل أن تعود الحكومة مستقبلا (بعد سنوات) إلى إقرار نفس البرنامج. وخلاصة القول أنه رغم هذه المآخذ ونظرا إلى الأسباب سالفة الذكر التي تدعم اتجاه إقرار مساهمة ضريبية إضافية بأسعار أعلى من الأسعار المعتمدة سابقا ومكملة لإجراءات قانون مالية 2011 وإدماجها في برنامج يمكن أن يشمل كذلك حقوق الجمارك ومجال الاقتطاعات الاجتماعية، التي يدبرها صندوق الضمان الاجتماعي، الذي يعرف الكثير من المخالفات ونقصان التصريح، وكذلك مجال تحصيل الضرائب العائدة إلى الدولة والرسوم العائدة إلى الجماعات والهيئات المحلية وما تعرفه من صعوبات في التحصيل العفوي أو الجبري وتراكم الباقي استخلاصه، من شأن كل هذه الإجراءات توفير موارد مالية للتخفيف من العجز وتصفية الآلاف من ملفات المنازعات الضريبية في المصالح الإدارية وعلى مستوى لجن التحكيم والقضاء الإداري بفعل صرامة المراقبة والفحص وثقل المساطر وتعقيد النصوص الجبائية وصعوبة استيعابها، خصوصا من طرف المقاولات الصغرى والمتوسطة، وهذا البرنامج يجب أن يسوق إعلاميا بصورة ناجعة بمشاركة المصالح الإدارية المعنية والمنظمات المهنية ومؤسسات المجتمع المدني، كما يجب تدعيم جو ومناخ التصالح بين المواطن دافع الضريبة والدولة وخلق الأمل في التغيير المنشود بصفة عامة وإعادة قراءة المدونة العامة للضرائب لمعالجة الثغرات وإعادة التوازن بين امتيازات الإدارة وحقوق الملزمين. وخلاصة القول أن هذه الإجراءات، إذا ما تم التوافق حول مضمونها، تحتاج إلى مسلسل إجرائي انطلاقا من اقتراح الحكومة ومصادقة المجلس الوزاري والمناقشة والتصويت من طرف البرلمان، سواء في إطار قانون مالية تعديلي كلُّ مؤشراتِه ومسبباته متوفرة، أو تأجيل ذلك إلى حكومة وبرلمان ما بعد انتخابات أكتوبر 2011 وما ستفرزه من خريطة سياسية وأغلبية نتمنى أن تكون متجانسة، قد تختار تبني هذه المقترحات في إطار مخطط اقتصادي واجتماعي يسعى إلى النهوض باقتصادنا. انتهى/ محمد شكيري - دكتور الدولة في القانون العام وإطار سابق في إدارة الضرائب