الحراك الذي شهدته الساحة السياسية المغربية أعقبته أفعال وردود أفعال متتالية تمخضت عنها مطالبة توجت باستجابة، هذه الأخيرة شدت وتشد إليها أنظار واهتمام سواء المتتبعين أو العازفين عن المشاركة السياسية في الداخل كما في الخارج. ولعل الدافع القوي لهذه المسألة هو حصول نوع من التنمية السياسية المتمحورة حول التمكن من خلق الجديد بأرضية قديمة دونما حاجة إلى الرجوع إلى نقطة الانطلاق. هذا العنصر الإيجابي في المواكبة الدقيقة للعملية التحويلية صاحبته ممارسات سلبية تحد من عملية التنمية السياسية في عمقها الهادف إلى تلمس الطريق الصحيح بعد الوقفة التأملية على مفترق الطرق والتي سبقت التصويت على الدستور. لعل العملية التحويلية افترضت تآكلا تدريجيا لكل ما هو تقليدي تصل إعاقته للعملية التحديثية إلى مستوى إحداث التوعك السياسي والاجتماعي المخلف للأثر، بل الأكثر من ذلك أن المرحلة افترضت التعبئة لقيام تنافس سياسي حقيقي يسمح بخلخلة المشهد وإعادة ضبط التوازنات وفق الشروط والمعايير المحددة. لقد بدا واضحا خلال المسار المفترض واقعيا أن هذا الأخير يحمل بذور أسس البناء والتطور الإيجابي. وقد راهن البعض على أوراق غير واضحة بغرض الحد من الاتجاه السريع والمرتفع لسقف المطالب بأن تم اعتماد العودة إلى بعض الحركات المشحونة بالضغط الذي أجبرها على الارتكان لسنوات، ومن جانب آخر اللعب بالزاويا كورقة سياسية موسمية صالحة في أي زمان ومكان كما كانت على عهد الاحتلال. المؤشر الأول، إذن، عكسته العودة غير المفهومة ل(شيخ) من منفاه بعد أن كان قد جمع كل الغضبات وحيدا باتهامه، بالمباشر وغير المباشر، بالارتباط بالخيط المؤدي إلى ارتكاب أفعال باسم المنطق الديني الذي يتبناه، كان أساسها التحريض على الإرهاب، وبناء عليه أغلقت كل دوره الدينية.. عودة المفتي الذي لم يحاسبه أحد على فتواه المفاجئة للعموم وغير المفاجئة للمحللين المتتبعين والمرتبطة بالبيدوفيليا المقننة، ثم التهيؤ للعودة ببروغاندا إعلامية فحواها أنه خارج التعامل الأمني الذي أثار حفيظة الغرب، هناك عينة من المجتمع مستعدة للنزول إلى الشارع كقوة معاكسة. الزاوية البوتشيشية كانت الورقة الثانية الداعمة للطرح المتبنى من أجل معاكسة المطالب الشعبية التي تناغم معها الملك. غير أن هذين المعطيين أفرزا واقعا جديدا قديما مفاده أن: - بعض الزوايا الدينية والحركات الدينية لازالت تعتبر صمامات أمان بعض الجهات لإيقاف روح التغيير الذي يتبناه الملك والشعب. - إخراج هذه الحركات والزوايا إلى الشارع ينم عن عقم في الإبداع الاستراتيجي لأنه يؤدي إلى قسم الشارع المغربي إلى متناطحين قد تزيد حدة تنافسهما إلى درجات معروفة النتائج. - المؤشر الثالث مفاده انكشاف مستور الحركات الروحية التي لطالما اعتبرت خدمتها للمجتمع مرتبطة بتهذيب الروح والغيبيات ولا علاقة لها بالانخراط في التنافس ذي الطابع السياسي. - المؤشر الرابع أمام هذا التحول الاستراتيجي الخطير هو أن الوسائط الدستورية بعد أن أصيبت بالخرس بعد خروج الشعب إلى الشارع يوم 20 فبراير، تصاب مرة أخرى بخرس أكبر يزكي المواقف السلبية للشعب منها، وهي التي تنتظرها مهمة استمالة المواطن. إن المشروع الديمقراطي الحداثي، كما أراده الملك والشعب، يحتم على كل صوت عاقل ووطني أن يتصدى لبعض مظاهر التقليدانية المضرة بالتطور الإيجابي للمجتمع، فمن غير المقبول الترويج لشيء اسمه ليلة الدعاء للدستور بالحفظ؟ قد يفيد تكرار التذكير بأن العالم منذ عقدين وفي كل أطرافه ونواحيه المترامية شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، قد آمن تدريجيا بنظرية «السعي إلى السعادة» التي تحدد بأمرين رئيسيين: - وضع دساتير جديدة حقيقية. - تشكيل حكومات جديدة تحترم مواطنيها. وبالفعل، كل الديمقراطيات البازغة نظرت إلى أمريكا كنموذج يحتذى به وإن على المستوى الاقتصادي في ما يرتبط برأسمالية السوق الحر، ووجدت نفسها ملزمة بشروط الانضمام إلى عملية التحول المتمحورة حول تقديم تنازلات كبيرة إذا كانت ترغب حقا في تحقيق منافع التوسع الاقتصادي. والمغرب بدا طموحه كبيرا إلى التسابق نحو الانخراط في الديمقراطية الحقيقية، غير أن معيقات ظلت متخفية في لباس المحافظ السلبي الرافض للتململ من حالة يبقى فيها الوضع على ما هو عليه، والتي ظلت تعاكس الإرادات وجرعات الجرأة المطلوبة، غير أن تحركها في مثل هذه الظرفيات يعكس انخراطها في سياسات جماعات المصالح في المغرب والتي تميل حتما إلى الانحياز الصريح إلى طبقة ما. كل هذا يجري تحت يافطة أن الأحزاب السياسية المغربية لم تستطع أن تكون بمنزلة كل شيء لكل الناس على مستوى الممارسة السياسية والتأطير السياسي، وهو ما يدفع دائما إلى التساؤل عن دور هذه الأحزاب في أخطر رهان على الأبواب والمرتبط بشهر أكتوبر المقبل. قد يفيد تكرار التذكير بأن الشعب المغربي يراهن على أحزاب نظيفة تمارس سياسة بأخلاق لإنجاح المرور نحو الأفضل. والبديهي أن تبدأ التهوية من القيادات الحزبية غير النظيفة، فكثيرها لا يؤدي الضرائب إلى الدولة مثلا، وكثيرها لا تهمه ديمقراطية داخلية مثلا، وكثيرها يراهن على منطق المقاولة، وكثيرها يراهن على سياسة المظلات للاستوزار، وقليلها يؤمن بالمملكة المغربية ذات السيادة والقوية إقليميا وقاريا ودوليا. لعل الظرفية تحتم، أكثر من أي وقت مضى، حضورا قويا ومكثفا لكفاءات المغرب الصامتة في إطار ضبط توازنات المرحلة المفتوحة على سيناريوهات متعددة إنقاذا للوطن وطرح المؤهل في مواجهة سياسة بدون أخلاق.